11 déc. 2014

النظرية والتجربة - التجربة والتجريب



النظرية والتجربة
تقديم:
    يتحدد المجال الإشكالي لمفهوم النظرية والتجربة داخل الحقل الخاص ببناء النظريات العلمية في العلوم التجريبية. ويطرح هذا الحقل مشكلات إبستيمولوجية وفلسفية أساسية تتمحور حول علاقات ومفاهيم متوترة مثل: العقل والواقع، الذات والموضوع، النظرية والتجربة.
    «إذا كان العقل والتجربة مكونين أساسيين في بناء النظرية العلمية، فما هو الوضع الذي يأخذه العقل في هذا البناء؟ كيف يواجه العقل عالم التجربة؟» داخل هذا الإشكال الكانطي حول علاقة العقل بالتجربة، يمكن طرح الأسئلة التالية: ما الوضع الذي يأخذه التجريب في بناء النظرية؟  هل يشكل التجريب أساس النظرية ومنطلقها؟ ما معيار علمية نظرية ما؟ ما العلاقة بين النظرية والتجربة في المعرفة العلمية؟ 

المحاور:
I ـ التجربة والتجريب.
II ـ العقلانية العلمية.
III ـ معايير علمية النظريات العلمية.

I ـ التجربة والتجريب.
    يتفق العلماء على ضرورة التمييز بين التجربة العادية والتجربة العلمية أو التجريب، فالتجربة ليست حكرا على العلم، لأنها تقع في أساس كل معرفة إنسانية، ذلك أن واقعة ما أو إحساسا أو فكرة أو حقيقة تكون معطاة من طرف التجربة عندما تكون موضع معاينة خالصة تستبعد كل اصطناع أو تدخل أو بناء من طرف الفكر؛ لكنهم يختلفون حول حقيقة التجريب وعلاقته بكل من الواقع والخيال، فما الفرق بين التجربة والتجريب؟ وهل التجريب انفتاح على الواقع أم على الافتراضي والخيالي؟

    1 ـ التجريب إنصات للطبيعة (كلود برنارClaude Bernard):
    يميز كوبري بين مفهوم التجربة ومفهوم التجريب، فالتجربة هي ملاحظة عامية، أي تجربة خام، وهي لم تلعب أي دور في نشأة العلم، بل على العكس من ذلك لعبت دور العائق. أما التجريب فهو ملاحظة منهجية للطبيعة، وهو يفترض مسبقا لغة خاصة يطرح فيها أسئلته وقاموسا يتيح تأويل أجوبته. يقول كوبري: « التجربة ملاحظة عامية... أما التجريب فهو المساءلة المنهجية للطبيعة ».
يرى كلود برنار أن التجريب انفتاح على الواقع وإنصات للطبيعة، ما دامت التجربة في العلم ليست هي نفسها التجربة الحسية أو الواقعية، وإنما هي مساءلة الظاهرة وفق إجراءات البحث العلمي، فالتجريب عبارة عن خطوات منهجية ونظرية مثلى إذا اشتغل العالم بمقتضاها، فإنه يتوصل إلى معرفة القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية، كما يرى أن المنهج التجريبي يقوم على مبدأين أساسيين هما: جود فكرة يتم إخضاعها للفحص في ضوء وقائع صحيحة ومنظمة، ومعاينة الظاهرة بشكل سليم وشمولي. ويتضح من خلال هذا أن خطوات المنهج التجريبي حسب كلود برنار هي: الملاحظة، الفرضية، ثم التجريب.
Ø     الملاحظة العلمية : هي الخطوة الأولى في عما العالم، وهي المعاينة الجيدة للظاهرة المدروسة، أي مشاهدة الحوادث ومراقبتها باستخدام كل الوسائل والأدوات التي من شأنها جعل ملاحظة الظاهرة أكثر شمولية و ملاءمة لروح البحث العلمي ، فهي ليست ملاحظة عفوية إذن، بل موجهة و قصدية، يلتزم فيها الملاحظ مبدأ الموضوعية  وينشد الدقة.
Ø     الفرضية: وهي إجابة مؤقتة لتفسير الظاهرة من خلال استحضار كل الأسباب الممكنة لوقوعها، إنها مشروع قانون، ولصياغة الفرضية لا بد أن تكون نابعة من صلب الواقع أي مستوحاة من الموضوع المدروس، وأن تكون قابلة للتحقق، وخالية من التناقض. فالعالم ينتظر من الظاهرة المدروسة أن تنسجم مع الفرضيات التي اقترحها حتى تكتسب هذه الأخيرة صلاحيتها وصدقها.
Ø     التجريب : وهي إعادة بناء الظاهرة مختبريا والتحكم فيها ، مما يتيح للعالم التحقق من صدق أو كذب ما اقترحه من فرضيات، ويمكنه من رؤية دقيقة للظاهرة مع إمكانية إعادتها، إنها بتعبير آخر شكل من أشكال استنطاق الظاهرة.
    إذن لبلوغ الحقيقة العلمية حسب كلود برنار، لابد للعالم من أن يجمع بين شروط الملاحظة العلمية والمبادئ المنهجية والنظرية، وإذا ما اشتغل بمقتضاها فإنه يتوصل إلى معرفة القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية، وتتخذ هذه القوانين ثلاث صور:
 * التعبير على تركيب مثل الماء مكون من هيدروجين 2 أوكسجين (O2H).
 * أو التعبير على ثوابت عديدة، مثال: سرعة الضوء هي:  3.10 8 M/S
 * أو علاقات ثابتة بين حادثتين أو أكثر، مثلا: الماء يتبخر في درجة حرارة C°100 وفي ضغط جوي MB76، الكبريت أصفر ويبقى أصفر في درجة حرارة C°120.
    هذه هي خطوات المنهج التجريبي كما حددها كلود برنار. لكن هل جميع الحوادث قابلة للفحص وفق المنهج التجريبي ؟

    2 ـ الخيال و التجريب ( روني توم  René Thom):
    لم تعد التجربة في شكلها التقليدي مواكبة للتطورات الحاصلة على مستوى التصور العلمي للواقع ، بقدر ما أضحت عائقا أمام أي اكتشاف لأنها ظلت رهينة الواقع الساكن الميكانيكي والرؤية التجريبية الضيقة التي تحصر مهمة النظرية في الوصف واستخلاص القانون واعتماد التجربة كمعيار لصدق النظرية أو العكس، وبالتالي يصبح العقل سجين التجربة مهمته تسجيل نتائجها. في حين أن واقع المادة تغير إذ أصبحت واقعا متناهي الصغر، وانتقلنا من عالم الكتلة إلى عالم الطاقة، ثم إلى عالم الميكروفيزياء وعالم الفضاء والذرة، ومن الفيزياء الميكانيكية مع نيوتن إلى فيزياء نسبية مع أينشتين، ثم نظرية الكوانتوم مع ماكس بلانك... مما خلق أزمة على مستوى المنهج وفرض ضرورة تغيير نظرتنا إلى العالم، وفتح آفاقا جديدة في العلم بعيدا عن التصور الكلاسيكي للتجربة العلمية وللعلم نفسه. وأصبحنا أمام عقلانية علمية جديدة منسجمة مع التطورات المعرفية والتكنولوجية التي عرفتها البشرية ، أجبرت العقل على التحرر من النظرة الستاتيكية للمادة، ولم تحصر وظيفة النظرية في الوصف لأن الواقع المدروس غير قابل للوصف لصغره، وجعلت التجريب بناء عقليا ذهنيا إبداعيا ومجرد افتراضات مفتوحة على الممكن؛ وبهذا الشكل حلت النزعة الرمزية الرياضية محل النزعة التجريبية الحسية.
    لقد انتقد روني توم René Thom التصور التجريبي الكلاسيكي الذي يعتقد أن التجريب وحده يتيح التحليل السببي للظواهر. ويرى في المقابل أن العلم  لا يمكنه أن يكون علميا إلا إذا انفتح على الافتراضي والخيالي؛ فالعلم الكلاسيكي يعتمد التكرار كأساس لبناء التجربة بهدف التحقق من صلاحية الفرضية اختباريا ، بينما التجريب المعاصر تجريب ذهني بالدرجة الأولى يبنى في العقل وهذا هو الشكل الإبداعي للتجريب المعاصر  إنه تجريب مفتوح على الممكن . يقول روني توم: « لا يشكل التجريب العلمي في معناه التقليدي مقوما وحيدا في تفسير الظواهر ، بل لا بد من اعتبار عنصر الخيال وإدماجه في عملية التجريب . إن الخيال هو تجربة ذهنية تمنح للواقع غنى ».
ذلك أن الخيال له دور كبير في التجريب، ويتضح هذا جليا من الفرضية نفسها،فهي لا وجود لها بدون وجود شكل من أشكال النظرية لتي تتضمن دائما كيانات خيالية يتم التسليم بوجودها، ويتعلق الأمر  بالعلاقات السببية التي تهدف التجربة إلى إثباتها أو تكذيبها، يقول توم: « إن التجريب وحده عاجز عن اكتشاف سبب أو أسباب ظاهرة ما. ففي جميع الأحوال ينبغي إكمال الواقعي بالخيالي ». إذن لابد من اللجوء إلى الخيال باعتباره عملية ذهنية ضرورية وأساسية في التجربة لكونه يسهل إجراء التجربة والتأكد منها ذهنيا وليس دائما في الواقع. فالتجربة العقلية الخيالية تكمن قيمتها الكبرى في تجاوز صعوبات الملاحظة العلمية المباشرة لرصد بعض الظواهر، فالإلكترونات والنوترونات في الذرة مثلا يصعب متابعة حركتها وكذا التجريب عليها. وتبقى هي وحدها منطلقا لبناء العالم لنظريته، إذ يستبق بها تفاعلات مستويات الظاهرة المدروسة ليعبر عنها رياضيا وفكريا قبل أن تتاح ظروف معاينتها.
  
II ـ العقلانية العلمية.

إن الحديث عن العقلانية العلمية هو حديث في الأصل عن العلاقة بين ما هو عقلي يعتمد على التماسك الداخلي للعقل والاتساق من الناحية المنطقية الرياضية، وما هو واقعي يعتمد على الملاحظات الدقيقة والتجارب في بناء النظريات العلمية، إنه إذن حوار بين العقل والتجربة، بين الانسجام المنطقي الداخلي للنظرية ومطابقتها للواقع، بين العقل باعتباره أداة بناء النظرية والواقع باعتباره موضوعها، نكشف عنه من خلال الإشكال التالي: ما هي حدود الفاصلة بين ما هو علمي وغير علمي في النظرية؟ وما هو أساس العقلانية العلمية، العقل أم التجربة، أم حوار بين العقل والتجربة؟

    1 ـ العقلانية المبدعة (ألبير أينشتاين Albert Einstein):
ينتمي أينشتاين إلى التقليد الإبستيمولوجي، الذي يحاول أن يكون منفتحا وغير متعصب لنظرية واحدة، بل قابلا لتعدد النظريات بتعدد الفرضيات التي لا تشترط في صحتها إلا الامتثال لشروط المنهج الأكسيومي بدل المنهاج التجريبي، أي لمدى انسجامها المنطقي لا تطابقها مع الواقع من خلال التجربة. يقول  أينشتاين: « إن نسقا كاملا من الفيزياء النظرية يتكون من مفاهيم وقوانين أساسية للربط بين تلك المفاهيم والنتائج التي تشتق منها بواسطة الاستنباط المنطقي، وهذه النتائج هي التي يجب أن تتطابق معها تجاربنا..لا يمكن استنتاج القاعدة الأكسيومية للفيزياء النظرية انطلاقا من التجربة إذ يجب أن تكون إبداعا حرا ».
يقوم النسق النظري للعلم (الفيزياء) على العلاقة المتبادلة بين العقل ومعطيات التجربة، إلا أن ما يمنح لهذا النسق قيمته هو التطابق بين المفاهيم والمبادئ التي ÷ي إبداعات حرة للعقل البشري، لهذا يقر أينشتاين أن غاية العلم لم تعد هي تجميع الظواهر المتجانسة وتفسيرها، وإنما أصبح هدفه هو ترجمة لغة التجربة إلى لغة رياضية، فتتحول الظواهر الواقعية التجريبية إلى أرقام ورموز بأبسط ما يمكن من مبادئ ومفاهيم عقلية. وهو بهذا لا يفك الارتباط تماما بين النظرية والتجربة لأن معيار صحة النظرية العلمية يكمن في إمكان تطابقها مع معطيات الواقع وتأكيد  الاختبارات لها، ورغم هذا فالتجربة لا تكون دوما منبعا للنظرية، لأن النظريات العلمية المعاصرة أصبحت شبكة من العلاقات الرياضية الافتراضية التي ينشؤها الفكر دون الرجوع إلى التجربة. إنها تستمد صلاحيتها ومصداقيتها من انسجامها المنطقي وامتثالها لشروط المنهج الأكسيومي بكل ما يتميز به من رمز وتجريد منطق. ومن ثمة لم يعد المبدأ الخلاق في العلم يوجد في التجربة، بل في الرياضيات المبدعة التي باتت هي الخالقة للنظريات الفيزيائية المعاصرة والتي تمنحها نجاعتها وقوتها المنطقية، وكذا استباقها للمعاينة المادية والملاحظة كما وقع مع بنية الذرة في الفيزياء الذرية أو الماكروسكوبية في علم الفلك مثلا.

    2 ـ حوار العقل والتجربة (غاستون باشلارGaston Bachelard ):
ينتقد باشلار كل من النزعتين التجريبية والعقلانية، ويرفض اعتبار الواقع المصدر الوحيد لبناء النظرية العلمية، كما يرفض اعتبار العقل مكتفيا بذاته في بناء هذه النظرية. لم يعد هناك مجال للعقلانية المطلقة ولا للواقعية المطلقة، بل حل محلها نموذج جديد من العقلانية المطبقة، يقول باشلار: « هذه العقلانية الفعالة، تتعارض مع الفلسفة التجريبية التي تنظر إلى الفكرة كما لو كانت تلخيصا للتجربة، وذلك بالفصل بين التجربة وكل قابليات التهيؤ»، عقلانية متحررة من المسلمات وأكثر انفتاحا على الممكن، ترفض الصرامة المنطقية للعقلانية الديكارتية التي تعتبر العقل وحده مصدر المعرفة، وترفض أن تكون المعرفة مجرد انعكاس للواقع الحسي كما تصور ذلك التجريبيون، بل تقتضي استخدام العقل على المادة. إنها عقلانية تقيم حوارا بين العقل والتجربة، يقول باشلار: « إن العقلانية العلمية المعاصرة هي عقلانية فلسفية مطبقة، تقوم على يقين مزدوج يوجه النشاط العلمي التجريبي، ويجعله مشروطا بحوار جدلي بين ما هو عقلي وما هو واقعي ». عقلانية أصبحت أكثر انفتاحا، تأخذ المعلومات وتحولها إلى برامج ومعادلات رياضية، وتقبل أن يعاد النظر في المبادئ والأسس بحثا عن العوائق والأخطاء.. عقلانية معاصرة تمثل رؤية جديدة تحاول استيعاب مظاهر جديدة، انفتحت على التحولات التي وقعت في الرياضيات والهندسة الفراغية، وأصبح المنهج الأكسيومي هو الموجه للبحث العلمي.

III ـ معايير علمية النظريات العلمية.

لقد اعتقد العقلانيون القدماء بأن العقل هو معيار الحقيقة العلمية ولهذا كان ديكارت يشترط البداهة والوضوح العقلي، وأسس كانط موضوعية تجمع بين العقلي والحسي. أما التجريبيون فرؤوا أن التجربة هي مصدر الحقيقة والسبيل إلى التحقق من صلاحية النظرية، وقد ساد هذا التصور إلى حدود الفيزياء الحديثة مع نيوتن.. لكن الواقع لم يعد كما كان يدركه القدماء والكلاسيكيون واقعا مجسما أو جوهرا مطلقا، بل أصبح أكثر تعقيدا وأكثر صغرا، مما جعل تصوراتهم غير قادرة على استيعاب هذا الواقع،  وبالتالي لم يعد للقانون نفس الدقة  و الإطلاقية،  لقد أصبح القانون يحمل طابعا احتماليا. فالنظريات العلمية المعاصرة أصبحت مجرد إنشاءات عقلية حرة قابلة لأن تجدد إلى ما لا نهاية. أي أن تاريخ العلم أصبح تاريخ تصحيح الأخطاء ( باشلار)، وأن علمية النظرية تتحدد في قابليتها للتكذيب ( بوبر).
من هنا السؤال: كيف نحدد علمية النظرية ؟ هل هو انسجامها المنطقي الداخلي؟ أم قابليتها للاختبار التجريبي؟ وما قيمة تعدد الاختبارات وقابلية النظرية للتكذيب في تأكيد علميتها؟

    1 ـ معيار تعدد الاختبارات (بيير تويلييPierre Thuillier ):
يرفض بيير تويليي النزعة التجريبية باعتبارها نزعة اختزالية وتبسيطية، مبرزا أن التجربة لن تكون أبدا منبعا للنظرية ولا يمكن أن تمنحها تماسكها وانسجامها المنطقي، بل «إن التحقق التجريبي لا يعطي دلائل قطعية وإنما فقط تأكيدات غير مباشرة تكون جزئية  ومعرضة للمراجعة». ويرى أن صدق النظرية العلمية هو تعدد الاختبارات التي تخضع لها، إذ لابد من إخضاع فروض النظرية لاختبارات متنوعة تربطها بفروض نظرية أخرى، لهذا فما يؤكد علمية النظرية هو تعدد الاختبارات الذي يخرج النظرية من عزلتها التجريبية من خلال الارتباط بنظريات أخرى ويمنحها قوتها وتماسكها. فاختبارات التماسك المنطقي للنظرية الواحدة أو ما بين نظريات عديدة هي بمثابة محرك أساسي لتطور العلم، وبعبارة أخرى الترابطات النظرية بين الافتراضات تسمح أحيانا كثيرة بفهم وتفسير العديد من الظواهر دون الحاجة إلى معاينتها وملاحظتها.  

    2 ـ معيار القابلية للتكذيب (كارل بوبرKarl Popper ):
يبدأ كارل بوبر بتحديد مراحل التحقق العلمي من النظرية في:
·        المقارنة المنطقية للتحقق من تماسك النسق النظري.
·        البحث في الصورة المنطقية لتحديد طبيعة النظرية هل هي علمية أم تحصيلية.
·        المقارنة بين النظرية رهن البحث وأخرى لمعرفة ما إذا كانت ستشكل تقدما معرفيا.
·        اختبار صحة النظرية بالقيام بتطبيقات تجريبية.
·        التنبؤ أو التوقعات تأتي كنتيجة للممارسة.
ليخلص إلى أن معايير علمية النظرية تتحدد في: - الاتساق المنطقي  -  التحقق التجريبي  -  قابلية التكذيب.
إنه يرفض اعتبار التجربة محكا لقياس صلاحية النظرية العلمية، ويؤكد على أن « النظريات ليست قابلة للتحقيق الأمبيرقي مطلقا »، فالنظريات العلمية الصحيحة ليس تلك التي تمت مصادقة التجربة عليها، لأن معيار صلاحية النظرية العلمية ليس في مطابقتها للتجربة (الواقع) بل في قابليتها للتكذيب أو التفنيد. وهذا راجع حسب كارل بوبر إلى كون النظرية العلمية ليست حقيقة نهائية ومطلقة حتى ولو كانت تدعي العلمية، بل عليها أن تخضع لمبدإ قابليتها للتكذيب الذي لا يقبل أن تكون نظرية ما علمية ما لم تقبل إمكانية أن تكون كاذبة. يقول كارل بوبر« إن النظرية العلمية التجريبية الأصلية هي التي تستطيع أن تقدم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها وتبرز نقط ضعفها، وتخضع بصفة قبلية، فروضها لمعيار القابلية للتفنيد أو التكذيب ». فبالنسبة له تاريخ العلم هو تاريخ صراع بين نظريات يحكمه معيار قابليتها للتفنيد أو التكذيب.

خلاصة:

إن الحديث عن النظرية والتجربة يعكس حقيقة الصراع والتوتر بين النزعة الواقعية والنزعة العقلية، ويرسم بوضوح معالم الانقلاب على كل التصورات الكلاسيكية التي كرست هذا التوتر وسيرورة مراجعتها. فقد تطور التفكير في المنهج العلمي ولم يعد للتجربة وحدها دور فيه ولا في التحقق من صحة النظريات وضمان الدقة والموضوعية في التعامل مع الظواهر الملاحظة، بل صار للعقل هو الآخر حضوره البارز إلى حد أن العالم يستبق به تفاعلات الظاهرة المدروسة والمعاينة المادية لها، وفق واقع رمزي رياضي و استنباطي، أكثر منه واقع حسي وتجريبي. بل لم يعد هنالك فاصل بين ما هو عقلي وما هو واقعي، فالعلاقة بين البناء النظري والتجريبي هي علاقة تكامل وتفاعل، لأن العالم الذي يجرب لا يمكنه أن يستغني عن الاستدلال، والعالم الذي يستدل لا يمكنه أن يستغني عن التجربة.
إن علاقة النظرية بالتجريب أو علاقة العقل بالواقع أصبحت علاقة جدلية، ومفهوم العقل مثل مفهوم الواقع ( التجربة ) لم يعد يطرح بمعناه الكلاسيكي، بل اتخذ هذان المفهومان دلالات و أبعاد مغايرة في إطار العقلانية العلمية ( أو العقلانية المطبقة )، بحيث لم يعد موضوع المعرفة معطى مباشرا في الواقع الحسي بل أصبح موضوعا يبنى داخل المختبر، ولم تعد علمية نظرية ما تكمن في مدى تطابقها مع الواقع بل في تماسكها الداخلي وانسجامها المنطقي من جهة وقابليتها للتكذيب أو التفنيد من جهة أخرى.













الحقيقــــة

تقديم:
يثير مفهوم الحقيقة بمعناها الفلسفي التقليدي، من حيث هي مطابقة الفكر لموضوعه أو مطابقة العقل للواقع أو مطابقة الحكم للواقع، الكثير من الغموض واللبس. مما جعل الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر يحصر مفهوم الحقيقة في مجالي الفكر واللغة، فحيث لا يوجد فكر يحكم على الواقع ولا لغة تعبر عن الفكر، لا يكون ثمة معنى للحقيقة. إن الحكم قرار يصدره العقل، فهو عملية عقلية يتم الربط فيها بين مفهومين أحدهما يسمى موضوعا والآخر محمولا، وبالتالي الحقيقة لا توجد إلا على مستوى الأحكام العقلية، فلا وجود للحقيقة خارج إطار اللغة والخطاب.
إن الحديث عن الحقيقة يثير العديد من الإشكالات المعرفية والمنهجية، يمكن طرحها على النحو التالي:
ما علاقة الحقيقة بالواقع؟ هل الحقيقة هي مطابقة الفكر لذاته أم مطابقته للواقع؟  وأي واقع يفترض أنه يمثل الحقيقة؟ هل توجد الحقيقة خارج إطار الفكر واللغة أم أنها نتاج لهما؟ هل الحقيقة موضوعية أم ذاتية؟ مطلقة أم نسبية؟ واحدة أم متعددة؟ هل توجد الحقيقة في معزل عن أضدادها كالوهم والخطأ؟ هل توجد الحقيقة في معزل عن السلطة والإكراه المؤسساتي؟ أين تكمن قيمة الحقيقة؟ هل لها قيمة في ذاتها أم أن قيمتها تكمن خارجها؟ هل للحقيقة قيمة نظرية (معرفية) أم أخلاقية أم نفعية؟

المحاور:
I ـ الرأي والحقيقة.
II ـ معايير الحقيقة.
III ـ الحقيقة بوصفها قيمة.

I ـ الرأي والحقيقة.

غالبا ما ينظر إلى الرأي كانطباع شخصي يكونه الفرد بناء على إدراكاته الحسية المباشرة، فهو يعبر عن التجربة العامية المشتركة البعيدة عن التأطير النظري الدقيق،  وهو ما يجعل من المعقول البحث عن الحقيقة، وذلك بنقد الآراء، وقد ذهب كثير من الفلاسفة والعلماء إلى رفض الرأي في حقل المعرفة وحقل الحقيقة العلمية. فما علاقة الرأي بالحقيقة؟ هل هي علاقة تداخل واستمرارية أم علاقة قطيعة وانفصال؟ كيف تبنى الحقيقة؟ هل هي معطاة لنا أم نقوم ببنائها؟

1- التطابق بين الحقيقة والرأي:
لا فرق في الطبيعة-  في نظر ماكس بلانك Max Blanc - بين الاستدلال العلمي والاستدلال العادي اليومي (الرأي)، وإنما الفرق بينهما في درجة النقاء والدقة. وهذا الاختلاف شبيه، شيئا ما، بالاختلاف بين المجهر والعين المجردة. إن التمثل الذي يقدمه العلم عن العالَم لا يختلف في الطبيعة عن التمثل الذي تقدمه عنه الحياة اليومية، وإنما يختلف عنه في رهافة بنيته ودقتها. ذلك أن تمثل العالم للعالَم بالنسبة إلى تمثله السائد في الحياة اليومية، هو كتمثل الراشد للعالَم بالنسبة إلى تمثل الطفل له.
وما يوضح حقيقة هذا الحكم- حسب بلانك- هو أن الأمر هنا يتعلق بصورة من صور المنطق. فالمنطق العلمي ليس في وسعه أن يستنبط من مقدمات معطاة، شيئا مغايرا لما يستطيع منطق الحس المشترك العادي أن يستنبطه.

2- التقابل بين الرأي والحقيقة:
يرى بليز باسكال Blaise Pascal أن العقل ليس هو المصدر الوحيد للحقيقة، إذ أن هناك مصادر أخرى لبلوغها. هكذا يعتبر أن للقلب حقائقه التي يعجز العقل على الاستدلال عليها، وهذا العجز من طرف العقل لا يجب في نظر باسكال أن يجعلنا نشك في حقائق القلب التي هي مبادئ أولى تدرك بشكل حدسي مباشر، وتستنبط منها كل الحقائق الأخرى. هكذا يقول باسكال بمبادئ أولية وفطرية،مثل المكان والزمان والحركة والأعداد، وهي مبادئ صادرة عن القلب، كما أنها يقينية وغير قابلة للشك، وهي تشكل الأساس الذي ينبغي أن يستند عليه العقل لاستنتاج الحقائق الأخرى. وفي هذا السياق يميز باسكال بين المبادئ الأولية التي يشعر بها القلب، والتي لا يمكن للعقل أن يطالبه بالبرهنة عليها، وبين القضايا التي تستخلص من تلك المبادئ، والتي لا يمكن للقلب أيضا مطالبة العقل بأن يشعر بها، فالقلب مصدر المبادئ والعقل مصدر القضايا. هكذا يمكن القول انطلاقا من موقف باسكال بأن هناك آراء واعتقادات صادرة عن وجدان الإنسان وأعماقه دون أن يكون بالإمكان البرهنة عليها عقليا. يقول باسكال : « إننا نشعر بالمبادئ، أما القضايا فيستخلص بعضها من بعض، والكل له نفس اليقين وإن اختلفت الطرق المؤدية إليه ».

3 - تداخل الرأي مع الحقيقة:
ينطلق إيمانويل كانطEmmanuel Kant  في تصوره حول إشكالية العلاقة بين الحقيقة والرأي، من اعتبار أن الرأي ضروري لبناء المعرفة وبلوغ الحقيقة، فالرأي في البدء يكون اعتقادا، أي انه مجرد انطباع شخصي يعبر عن قناعة ذاتية وفردية. غير أنه يكتسب طبيعة الحكم الكوني حينما يتحول إلى رأي جماعي أي إلى اعتقاد تؤمن به العقول، وبهذا يتحول إلى حكم يتسم بالكونية والضرورة والموضوعية، الشيء الذي يفضي بنا في آخر المطاف إلى اليقين والحقيقة. هكذا يؤسس كانط تصوره للحقيقة التي تبتدئ بالرأي وتمر بالاعتقاد لتصل إلى اليقين. فالرأي درجة من درجات المعرفة وليس نقيضا لها، فالرأي لكونه اعتقادا يعي بأنه غير كاف ذاتيا وموضوعيا، وبالتالي فلا مجال له بخصوص الأحكام التي تصدر عن العقل النظري والعقل العملي، يقول كانط:« من العبث تكوين آراء  في مجال الرياضيات الخالصة ... وكذلك الشأن بالنسبة للمبادئ الأخلاقية». 
ويذهب الفيلسوف ويلهيلم ليبنتز  Wilhelm Leibnizأبعد من ذلك في تصوره لإشكالية العلاقة بين الحقيقة والرأي، للدفاع عن مفهوم الرأي الذي يعتبره ضروريا في بناء كل معرفة إنسانية كانت تاريخية أو اجتماعية أو سياسية أو حتى برهانية، كما هو الأمر بالنسبة للعلوم البرهانية التي يشكل فيها الاحتمال خاصية أساسية. وتبعا لهذا، نجد ليبنتز يربط بين الرأي والاحتمال: فإذا كان الاحتمال ضروريا في بناء المعرفة البرهانية، فإن الرأي ضروري في بناء المعرفة التاريخية والاجتماعية. إذن فالرأي يشكل مدخلا نحو بلوغ اليقين والحقيقة و خصوصا الرأي القائم على الاحتمال.

4 - الرأي عائق أمام المعرفة:
يؤكد أفلاطون  Platonأن بلوغ الحقيقة اليقينية المطلقة يقتضي اتباع طريق التأمل العقلي، وتجاوز الآراء والمعتقدات السائدة. لأن الحواس، حسب أفلاطون لا تمدنا سوى بالظلال أو الأوهام، التي هي مجرد أشباه حقائق أو آراء ظنية صادرة عن العوام، بينما تعتبر الفلسفة هي العلم الموضوعي بالحقيقة، لكونها تعتمد على الجدل الصاعد كمنهج عقلي تأملي يتعارض تماما مع الآراء الظنية السائدة.
سيتخذ الحذر من الرأي عند رونيه ديكارت  R. Descartesطابعا منهجيا راديكاليا: تقع الحقيقة في نهاية سرداب، يبدأ بالشروع ولو مرة واحدة في حياتنا في الشك في جميع الآراء التي تلقيناها وصدقناها وفي الأشياء التي نجد فيها أدنى شبهة من عدم اليقين، بغية التخلص من الأحكام المسبقة والآراء المتداولة التي تَعَجّْلنَا في إطلاقها والتي تتشبث بأنفسنا بقوة. فهو يرى أن الحقيقة بناء عقلاني و ليست معطاة في التجربة الحسية أو المعرفة المسلم بها والآراء الشائعة. فممارسة الشك المنهجي وافتحاص الآراء المتداولة التي نتلقاها من الوسط الاجتماعي يجعلنا نتخلص منها، ويمكننا من إعادة تأسيس المعرفة الحقيقية على أسس يقينية.  
وتستمر فكرة القطيعة بين الحقيقة والرأي في الفلسفة المعاصرة مع غاستون باشلار Gaston Bachelard الذي يميز بين الحقيقة العلمية والرأي، ويقر بتعارضهما. فالرأي ذاتي والعلم موضوعي وبالتالي لا يمكن بناء ما هو موضوعي على ما هو ذاتي، بل يجب على العلم أن يقطع صلته بالرأي من أجل بلوغ الحقيقة، وهو ما يعرف عند باشلار بالقطيعة الإبستيمولوجية. ذلك أن الرأي دائما خاطئ مادام غير قابل للتبرير و التسويغ، فهو نوع من التفكير السيئ، بل إنه ليس تفكيرا على الإطلاق. وليس تاريخ العلوم إلا تاريخ دحض وهدم مستمرين للرأي الذي يعد واحدا من أقوى العوائق الإبستملوجية، من حيث كونه فكرا سيئا تفرزه الحياة اليومية الغارقة في البراغماتية، ولا يكفي أن يمتلك الشخص رأيا لكي يبني الحقيقة ، لأن الحقيقة حسب تصور باشلار تبدأ بالقطع مع الانطباع والاعتقاد حيث يتيه تفكيرنا في الوهم،  يقول باشلار « إن الرأي يفكر دائما بصورة سيئة، إنه لا يفكر، إنه يترجم الحاجات إلى معارف وهو إذ يشير إلى الأشياء وفقا لمنفعتها إنما يحرم نفسه من معرفتها ». فلا يمكن تأسيس أي معرفة على أساس الرأي، بل ينبغي هدمه، لأنه أول عائق يلزمنا تخطيه لبناء الحقيقة العلمية التي تنبني على أساس البداهة العقلية. إن شرط الفكر العلمي الأساسي هو أن نعرف كيف نطرح المشاكل وندقق في السؤال، لأن المعرفة بالنسبة للفكر العلمي هي جواب عن سؤال، وإن لم يكن ثمة سؤال فمن غير الممكن قيام أية معرفة علمية، لا شيء يُعطى في العلم حسب باشلار، بل إن الحقيقة العلمية تُبنى وتُشيد. فالعلم يجعل من العالم المدرك حسيا عالما مبنيا ينطلق من طرح السؤال مرورا بالتقنيات الإجرائية المختلفة إلى الممارسة اليدوية التي يباشرها المجرب إلى الاكتشاف، وبقدر ما يتم بناء الحادثة العلمية بقدر ما نبعد عن صورتها الخام، وعلى هذا الأساس فإن المعرفة العلمية تتميز بكونها معرفة موضوعية ونظرية تهدف إلى الحقيقة انطلاقا من طرح المشكلات، فتصبح الظاهرة العلمية وكأنها صنعت من طرف العالم. إنها فلسفة الرفض أو «ديالكتيك النفي» التي تنبني على أن العلم لا يتقدم بالبناء على أساس المعارف، وإنما يتقدم بناءا على اكتشاف الأخطاء في تلك المعارف السابقة، وأن فائدة تاريخ العلم هي أن نبين كيف أن ما نعده اليوم نظرية علمية صحيحة قد مر بالعديد من النظريات الذي ثبت خطؤها في مرحلة تالية.

خلاصة:

نستنتج مما سبق بأن الرأي في علاقته بالحقيقة قد شكل بؤرة إشكالية توزعت بإزائها المواقف الفلسفية والعلمية، فليبنتز وباسكال يعتبران الرأي ضروريا لبناء المعرفة وبلوغ الحقيقة، في حين أن أفلاطون وديكارت يعتبرانه ضد الحقيقة، وكانط جعل الواقع يتكيف مع مقولات الفهم، وفي ذلك قوله: « لا أستطيع أن أكون رأيا بالصدفة ما لم تكن لدي معرفة مبنية على حكم تربطه بالحقيقة صلة و لو كانت غير مكتملة ، فهذا شيء أكثر أهمية من تكوين وهم اعتباطي » فالقانون اليقيني في نظر كانط هو شرط لبناء الحقيقة وهو مسألة قبلية. أما الخطاب الإبستيمولوجي العلمي المعاصر كما عند غاستون باشلار فـيرفض نهائيا الرأي ويعتبره مجرد عائق إبستيمولوجي يحول دون بناء المعرفة العلمية ودون بلوغ الحقيقة.

II ـ معايير الحقيقة.

يبقى إشكال معايير الحقيقة إشكالا مركزيا في مفهوم الحقيقة، باعتبار أن هذه الأخيرة ملزمة بأن تستند على معيار وأساس تقوم عليه. إذ بين العقل والتجربة، بين البداهة والمطابقة للواقع تمتد المسافة المعبرة عن إشكالية معايير الحقيقة، فإذا كان العقل هو وسيلة المعرفة فإن العالم المحسوس هو موضوعها. و هذا ما يدفعنا إلى طرح التساؤلات التالية: ما هي المعايير التي ينبغي أن تتوفر في معرفة ما لكي تصبح حقيقة؟ هل هي مطابقة الفكر لمبادئه، أم مطابقة الفكر للواقع، أم هما معا؟ هل معايير الحقيقة خارجية أم داخلية تدخل في ماهيتها؟

1 ـ الاتجاه العقلاني: مطابقة الفكر لمبادئه.
يؤكد ديكارت انه للوصول إلى الحقيقة لا بد من إتباع المنهج الشكي. ومن هنا فان وظيفة الشك هي تخليص العقل من الأفكار المسبقة و الأحكام الجاهزة. ومن فان الحقيقي هو ما يكون بديهيا و واضحا وضوحا عقليا.فإذا العقل واحدا وعند جميع الناس...فان الحقيقة   العقلية تعتمد الحقيقة عند (رونيه ديكارت (René Descartes على المنهج وعلى قواعد عقلية صارمة يمكن اختصارها في أربع قواعد رئيسية: البداهة، التحليل، النظام والمراجعة. وتتأسس الأفكار البديهية على مبدأ الحدس، في حين تتأسس الأفكار الأخرى على مبدأ الاستنباط. هكذا يحدد ديكارت للحقيقة معيارين رئيسيين هما: الحدس والاستنباط. الحدس عنده هو إدراك عقلي خالص ومباشر، ينصب على أفكار بديهية ومتميزة في الذهن بحيث لا تحتاج إلى استدلالات عقلية، كأن أدرك أنني موجود أو أن المثلث هو شكل ذو ثلاثة أضلاع. أما الاستنباط فهو إدراك غير مباشر للحقيقة، بموجبه يتم استخلاص حقائق جديدة من الحقائق البديهية الأولية على نحو منطقي صارم، فالحقائق التي يتوصل إليها عن طريق الاستنباط لا تقل أهمية ويقينية عن الحقائق الحدسية الأولية، ما دامت صادرة عنها بواسطة حركة فكرية مترابطة ومتصلة تفضي إلى نتائج ضرورية. هكذا فالحدس والاستنباط هما أساس المنهج المؤدي إلى الحقيقة. وبذلك فمعيار الحقيقة يتحدد أولا في البداهة المرتبطة بالحدس، إذ أن كل فكرة بديهية هي فكرة حقيقية تدرك بواسطة الحدس العقلي الخالص، ويتحدد ثانيا بواسطة التماسك المنطقي المرتبط بالاستنباط، إذ أن كل فكرة منسجمة منطقيا ومتطابقة مع قواعد الاستنباط العقلي تعتبر فكرة صحيحة ومنطقية.
إذا كان ديكارت يحدد الأفكار الدقيقة من خلال توفرها على خصائص البداهة ، الوضوح، التمايز والبساطة. إذ يقول « لا نقبل إلا الأفكار الواضحة والمتميزة » فإن ليبنتز يرفض معايير البداهة والتمايز في الأفكار الحقيقية و يرى أن الفكرة الحقيقية هي تلك التي تخضع للبرهنة والاستدلال المنطقي . فمعيار الصدق في الأفكار هو بعدها المنطقي، ويؤكد ليبنتز أن قضية ما تكون صادقة إذا ما كانت خاضعة للقوانين الكونية للعقل، أي إذا كانت خاضعة لقواعد المنطق، ويعرف المنطق بأنه العلم الذي يعلم القواعد والشروط الضرورية لكي تتحصل بشكل صحيح، أو بأنه بمثابة علم لقوانين العقل، هو فن تطبيقها بشكل صحيح في البحث والبرهنة على الحقيقة. وتتمثل مبادئ المنطق في: مبدأ الهوية، ومبدأ عدم التناقض، ومبدأ الثالث المرفوع والسبب الكافي.
وفي نفس السياق يحدد باروخ اسبينوزا Baruch Spinoza معيار الحقيقة في البداهة التي تتمثل في كون الفكرة الصحيحة تحمل يقينها في ذاتها، إذ أنها تفرض نفسها على العقل بشكل واضح ومتميز لا يتطرق إليه أدنى قدر من الشك. هكذا فالحقيقة هي معيار ذاتها، وهي تشبه النور الذي ينكشف فيؤدي إلى انقشاع الظلام. من هنا يرى اسبينوزا أن الفكرة التامة هي تلك التي تملك في ذاتها كل الخصائص والعلامات الباطنية المميزة للفكرة الصحيحة.

2 ـ الاتجاه التجريبي: مطابقة الفكر للواقع.
يرفض جون لوك  John Locke معيار البداهة الذي قال به الفلاسفة العقلانيون كديكارت و اسبينوزا، وهذا نابع من رفضه لوجود أفكار أولية وفطرية في العقل. هكذا اعتبر جون لوك أن العقل صفحة بيضاء وأن التجربة هي التي تمده بالمعارف والأفكار. من هنا فالتجربة هي المعيار الأساسي والوحيد للحقيقة. فالحواس تمدنا بالأفكار البسيطة كالامتداد والشكل والحركة، ثم يعمل العقل على التأليف بينها لإنتاج الأفكار المركبة كفكرة الجوهر والعلية و اللامتناهي. هكذا فكل أفكارنا ذات أصل حسي، والحواس هي التي تمنح لأفكارنا الصدق والحقيقة. وإذا تعذر إرجاع فكرة ما إلى أصلها الحسي التجريبي، فهي فكرة وهمية وباطلة. فمعيار الحقيقة إذن هو مطابقتها للواقع الحسي التجريبي.

3 ـ الاتجاه النقدي: مطابقة الفكر لمبادئه وللواقع.
إذا كان الفلاسفة العقلانيون يعتبرون البداهة والوضوح هي معيار الحقيقة فان الفلاسفة التجريبيين و على رأسهم جون لوك يرون بان العقل صفحة بيضاء لا يوجد فيه إلا ما تخطه التجربة. بل إن دفيد هيوم David Hume يشبه العقل بآلة فوتوغرافية تقوم بتصوير و تسجيل المعطيات الحسية. ومن هنا فالحقيقة إذن هي مطابقة الفكر للواقع من حيث هو واقع حسي تجريبي لكن كيف يكون العقل معيارا للحقيقة في غياب الواقع الحسي؟ وكيف يكون الواقع التجريبي معيارا للحقيقة في غياب العقل؟
يجيب كانط بأن المعرفة بالحقيقة اليقينية لا تكون بالحس وحده، لأن التأثيرات الحسية دون أن تتشكل في مقولات العقل تظل مادة عمياء و لأن مقولات العقل، كالزمان والمكان مثلا، دون أن تملأها التأثيرات الحسية تبقى أطرا فارغة لا عمل لها. ومن هنا قوله « المقولات العقلية بدون حدوس حسية جوفاء والحدوس الحسية بدون مقولات عقلية عمياء ». ويرى كانط أن العقل يتوصل إلى حقائق يقينية عندما ينصب اهتمامه على ظاهر الشيء ( الفينومينphénomène  ) ولكنه يقع في تناقضات عندما يهتم بالشيء في ذاته ( النومينnoumène  ). وهكذا تظل معرفتنا نسبية محدودة بحدود وسائل معرفتنا، لا تتعدى الفينومين الذي هو مجال المعرفة العلمية. وكلما حاولنا أن نتعرف على ماهيات الأشياء ونومينها كلما تناقض العقل مع ذاته وهذا ما يلاحظ وقوعه في الميتافيزيقا. يدعو كانط إلى التمييز بين مادة الأشياء التي تتم حولها المعرفة والشكل الذي يمنحه لها العقل، لأن هذا الأخير لا يتلقى الأشياء بشكل انفعالي سلبي وإنما يفرض عليها شكلا، فالزمان والمكان مثلا ليسا في الأشياء وإنما هما للعقل. إذ من ناحية الموضوع أو المادة ليس هناك معيار كوني للحقيقة لأنه لو وجد لأمكن تطبيقه على كل المعارف فلكل مادة معرفية خاصية وكل موضوع يتسم بخصوصية ما، ومن العبث اختيار معيار يتجاوز كل اختلاف بين الموضوعات. ومن ناحية الشكل أو الصورة يمكن أن نتحدث عن معايير وقواعد كلية للفهم، وكل ما هو متضاد مع هذه المعايير فهو خطأ، لأن الحقيقة تكمن في مطابقة المعرفة لذاتها بغض النظر عن الموضوعات واختلافها، وبالتالي المعايير الصورية هي القوانين الكونية للفهم والعقل. هكذا يرفض كانط وجود معيار كوني للحقيقة من حيث موضوعها ويقبل بوجود معيار كوني للحقيقة من حيث صورتها، لكنه غير كاف..

خلاصة:

ننتهي مما سبق إلى وجود إجماع بين الفلاسفة على وجود معيار للحقيقة، لكن هناك اختلاف بينهم في طبيعة هذا المعيار فـديكارت واسبينوزا يجمعان على أن معيارها في ذاتها داخلي، في حين أن ليبنتز  يؤكد أن معيار الحقيقة هو قواعد المنطق الكونية، أما كانط فيؤكد على وجود معيار كوني للحقيقة من حيث شكلها لكنه غير كاف. في حين نجد هيجل Friedrich Hegel يبين  عن طريق التحليل الجدلي أن كل شيء يحمل في جوفه ضده ويوجد بفضله و ينعدم بانعدامه، ومن هذا المنظور الجدلي فالخطأ هو الضد الجدلي للحقيقة أي أساسها و مكونها. أما باشلار فيعتبر أن الحقيقة العلمية خطأ تم تصحيحه وأن كل معرفة علمية تحمل في ذاتها عوائق إبستيمولوجية تؤدي إلى الخطأ وأول هذه العوائق الظن أو بادئ الرأي، وهذا يعني أن الحقيقة لا تولد دفعة واحدة فكل الاجتهادات الإنسانية الأولى عبارة عن خطأ واكتشاف الخطأ وتجاوزه هو الخطوة الأولى نحو الحقيقة.
أما مارتن هيدجر Martin Heidegger، فقد حاول أن يتجاوز أطروحات الفلسفة التقليدية حول المطابقة بأن تساءل حول الكيفية التي يمكن أن تكون بها الحقيقة استنساخا للواقع وترجمة أمينة له؟! فالتطابق لا يمكن أن يكون إلا بين شيئين متماثلين في الشكل والطبيعة، فكيف يمكن أن يكون الفكر مطابقا للواقع وهما مختلفان؟! لذا يرى هيدجر أن المقر الفعلي للحقيقة ليس هو الفكر (أو المنطوق) لأن الحقيقة انكشاف وحرية. أو بتعبير آخر: الحقيقة هي انفتاح على الواقع واستعداد لاستقباله في الصورة التي ينكشف بها أمام الذات، وهي كذلك تعبير حر للذات في تعاملها مع الواقع، أو كما قال هيدغر: "الحقيقة هي الحرية".
من خلال المقارنة بين التصورات الفلسفية المعروضة، يتضح أن الفلاسفة يؤسسون خطابات متعددة حول الحقيقة. وهذا ما يدعو إلى طرح التساؤل الآتي: ألا يمكن الحديث عن حقائق (بدل الحقيقة الواحدة)؟!!.

III ـ الحقيقة بوصفها قيمة.

إن اعتقاد الإنسان في الحقائق وسعيه المتعطش وراءها أمر ضروري لاستمرار الحياة الاجتماعية والأخلاقية، حتى أنه اعتبرها قيمة عليا. وإن كانت الفلسفة التقليدية طلبت الحقيقة كغاية في ذاتها وكقيمة معرفية وأخلاقية عليا، فإن الفلسفة المعاصرة ربطت الحقيقة بالمنفعة و المردودية وسعت إليها كقيمة عملية ووجودية. فمن أين تستمد الحقيقة قيمتها؟ ما الذي يجعل الحقيقة مرغوبا فيها وغاية وهدفا للجهد الإنساني، أ لأنها قيمة معرفية أم أخلاقية أم نفعية بالنسبة لإنسان، أم لأنها قيمة وجودية مرتبطة بالحياة والمعنى والحرية؟ وهل لها قيمة مطلقة أم نسبية؟

1 ـ الحقيقة قيمة معرفية وأخلاقية:
يبين لنا تاريخ الفلسفة الكلاسيكية أنه كانت للحقيقة قيمة نظرية مطلقة، وأنها كانت منشودة لذاتها؛ فالفلسفة عند اليونان كانت بحثا عن الحقيقة من أجل الحقيقة وليس لأي أغراض أو مصالح أخرى. وقد جسد سقراط Socrate   في حياته هذا الأمر؛ إذ تشبث بأفكاره إلى آخر لحظة في حياته حينما سيق به إلى الإعدام، وهو متشبث بالحقيقة وساخر من قومه الذين يتشبثون بالأوهام والمعتقدات الباطلة.
وفي نفس السياق اعتبر كانط أن للحقيقة قيمة معرفية وأخلاقية عليا ومطلقة وغير مشروطة. وهي بذلك تنشد لذاتها كحقيقة موضوعية نزيهة وبعيدة عن المنفعة والمصلحة الخاصة. فإذا كان البرهان هو الشرط المعرفي والمنطقي للحقيقة و لكونيتها، فإن الحرية والاستقلال والنزاهة هي شروطها الأخلاقية، ذلك لأن الخضوع والكذب والمغالطات والأهواء تشل فعالية العقل. إن الحقيقة كانت وستبقى قيمة معرفية وأخلاقية عليا، فهي ما يقصده الإنسان في حياته وما يفضله ويشقى ويتعب ويضحي من أجله ولو كلفه التضحية بحياته. إنها القيمة العليا المنشودة لذاتها كحقيقة موضوعية نزيهة بعيدا عن المصلحة الخاصة. وهذا ما عبر عنه كانط بقوله: « إن الحقيقة لمن مقتضيات العقل المقدسة والضرورية، وإذن ينبغي على الإنسان أن يكون صادقا في تصور حاله وأقواله »، فالصدق واجب في ذاته، ويجب على الإنسان أن يقول الحقيقة ويسلكها مهما كانت الظروف والشروط « لأن الكذب مضر بالغير دائما، حتى وإن لم يضر إنسانا بعينه فهو يضر الإنسانية قاطبة، مادام يجرد منبع الحق من الصفة الشرعية ». إن كانط يربط الحقيقة بأبعاد عملية وسلوكية دون أن يكتفي بجانبها المعرفي، ويحيل على السؤال الذي ينبغي أن يطرح حول كل مبادرة أو سلوك:  (ماذا لو فعل الناس جميعهم هذا السلوك؟) .من هنا يظهر البعد الغائي و الوظيفي الذي يتناول من خلاله كانط مفهوم الحقيقة، وكذا باعتبارها  ارتباطا باليومي و القانوني من أجل تحقيق السلام الدائم.
أما كيركجارد Sören Kierkegaard فيرى أن الحقيقة لها قيمة أخلاقية، إنها فضيلة على الطريقة السقراطية قبل أن تكون مجرد معرفة ، فهي لا تنكشف في العقل ولا تدرك في الاستدلال وإنما تولد في الحياة وتعاش بالمعاناة. الحقيقة ليست شيئا ثابتا إنها حوار واختلاف، وهي ذاتية لأنها لا تتكرر في كل واحد منا، إنها أخلاق وفضيلة وليست قضية معرفية وغاية مذهبية بعيدة عن شروط وجود الإنسان، إنها لا تنتقل إلينا من الخارج بل هي موجودة فينا أصلا.

2 ـ الحقيقة قيمة عملية:
لقد ارتبطت قيمة الحقيقة في الفلسفة المعاصرة بقيم العصر كالمنفعة والعمل والمردودية والإنتاج، والالتصاق بالواقع الإنساني. من هنا أصبحت للحقيقة قيمة عملية واقعية من جهة، وقيمة نسبية ومتغيرة من جهة أخرى. فعند الفيلسوف البراجماتي المعاصر وليام جيمس William James  تكمن قيمة الحقيقة  في كل ما هو نفعي، عملي ومفيد في تغيير الواقع والفكر معا. أي أن الحقيقة ليست غاية في ذاتها، بل هي مجرد وسيلة لإشباع حاجات حيوية أخرى. والأفكار الحقيقية هي تلك التي نستطيع أن نستعملها وأن نتحقق منها واقعيا، أما الأفكار التي لا نستطيع أن نستعملها وأن نتأكد من صلاحيتها فهي خاطئة. وعموما، يرى وليام جيمس أن الأفكار الصادقة هي تلك التي تزيد من سلطاننا على الأشياء، فنحن نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود كما نخترع الأجهزة الصناعية للاستفادة من قوى الطبيعة. فقيمة الحقيقة هي قدرتها على تحقيق  نتائج أو تأثيرات في الواقع، قد تكون تلك النتائج مباشرة لها أثرها في الواقع المادي، وقد تكون غير مباشرة بمعنى غير فعالة بشكل مباشر كحديث وليام جيمس عن تأثير الإيمان بالله  في الفرد بحيث ينحت داخله مجموعة من القيم التي باكتسابها تسود قيم من قبيل الخير و الفضيلة. إلا أن وليام جيمس لا يربط المنفعة بالأفراد بل بالإنسان بصفة عامة، فالحقيقي هو ما ينفع الإنسان لا هذا الفرد أو ذاك، والباطل هو ما يضر بالإنسان وما لا يفيده عمليا. ومن ثمة قوله: « إن امتلاك أفكار صحيحة يعني على وجه الدقة امتلاك أدوات ثمينة للعمل ».

3 ـ الحقيقة قيمة وجودية في خدمة المعنى والتماسك والحرية:
يرى الفيلسوف الألماني نيتشه Friedrich Nietzsche أن ما كان يعتقد الناس لأزمان طويلة أنه حقائق مطلقة ومقدسة، إن هو في واقع الأمر إلا أوهام نسي الناس لطول العهد أنها كذلك، والوهم أخطر من الخطأ لأن الخطأ يمكن اكتشافه وتصحيحه بينما الوهم ينتج عن الرغبة. وللوهم في نظر نيتشه مصدرين أساسيين:
 *المصدر الأول: يتمثل في حاجة الإنسان إلى الهدنة والسلم الاجتماعيين من أجل الحفاظ على بقائه، لذلك نجد الإنسان يتحايل مستعملا عقله للإخفاء والكذب والتمويه، ليس من أجل الكشف عن الحقيقة بل من أجل إخفائها وحماية الذات من البطش.
 *المصدر الثاني: يتمثل في اللغة التي هي عبارة عن استعارات وكنايات ومجازات عن الواقع، لذلك فهي تحجب عنا الحقيقة الفعلية للأشياء. وهكذا تلعب اللغة دور إخفاء حقائق الأشياء لا الكشف عنها، وهو الأمر الذي يؤشر على الارتباط القوي الموجود بين الحقيقة والوهم وصعوبة الفصل بينهما، بحيث أن الفرق بينهما هو فرق في الدرجة فقط، ما دام أن هناك درجة من درجات الوهم نعتبرها حقيقية ودرجات أخرى نعتبرها أوهاما.
وما يمكن ملاحظته هنا هو ارتباط الحقيقة عند نيتشه بضدها الذي هو الوهم من جهة، وارتباطها بالمصلحة الاجتماعية من جهة أخرى، وهكذا فالإنسان لا يبتغي الحقيقة في ذاتها بل يطمع في العواقب الحميدة التي تنجم عنها. وعلى العموم فالحقيقة عند نيتشه هي حقيقة نسبية ولا توجد في معزل عن ضدها الذي هو الوهم.
إذا كانت الحقيقة عند نيتشه قيمة وجودية في خدمة الحياة ونموها وتطورها، فإنها قيمة وجودية في خدمة المعنى والتماسك والحرية عند إريك فايل Eric Weil  . فهذا الأخير يرى أن نقيض الحقيقة ليس هو الخطأ بل العنف. لذا فقيمة الحقيقة تكمن في إنشاء خطاب عقلاني متماسك، يلغي العنف لصالح المعنى. لقد حصل تغير في مشكل الحقيقة؛ بحيث لم تعد هذه الأخيرة تتمثل في تطابق الفكر مع الواقع وإنما تطابق الإنسان مع الفكر، أي مع الخطاب المتماسك. فالإنسان يعيش في عالم مليء بالعنف والشقاء والتقتيل والجوع، وعليه أن يفكر في هذا العالم من أجل إنتاج حقيقة ومعنى له، بواسطة خطاب معقول ومتماسك يكون هدفه هو إزالة العنف و تجسيد قيم التسامح والعقل على أرض الواقع. إن ما يقابل الحقيقة ويشكل غيرها ليس الخطأ وإنما هو العنف. لم يعد مشكل الحقيقة هو تطابق الفكر مع الواقع وإنما تطابق الإنسان مع الفكر، أي مع الخطاب المعقول.
ومع هايدغر الحقيقة حرية وانكشاف، ذلك أن»  الوجود أفق له حقيقته ونداؤه الخاص يضيء إقامتنا وينسحب أمام كل إرادة للسيطرة، أفق يستسلم الفكر أمامه وينسحب بغية أن تأتي هذه الحقيقة / حقيقة الوجود صوبنا، هي حقيقة بين التحجب و اللاتحجب «. يصر هايدغر على ترجمة الكلمة الإغريقية إليتيا Alheteia باللااختفاء رغبة منه في إعادة النظر في الفهم المتداول لمفهوم الحقيقة باعتبارها مطابقة، ممهدا لنظرية جديدة تنظر إلى الحقيقة كانكشاف وحرية، بعيدا عن التصور التقليدي الذي يعالج الحقيقة ضمن مجال معرفي منطقي باعتبارها صدق التمثل الذاتي وتوافقه مع موضوعه، وهو ما يرفضه هايدغر بشدة على أساس أن الحقيقة لا تسكن الخطاب، وهي ليست قضية محمولية أي علاقة محمول بموضوع، لأنها ليست خاصية أحكام و تمثلات تصدرها ذات بشأن موضوع أو مطابقة الفكر للواقع أو مطابقة ما في الأعيان لما في الأذهان.
فالحقيقة والخطأ في نظره ليست من خصائص الخطاب، ولا تقيم داخل القضايا والأحكام ، فالحقيقة و اللاحقيقة كلتاهما يتمتعان بوجود أنطولوجي خارج فكر الذات و إدراكاتها. إن اللاحقيقة كتيه هي الماهية المضادة للماهية الأصلية للحقيقة. فاللاحقيقة لا تقوم خارج الحقيقة، بل تنتمي إليها، بحيث لا يمكن تحديد ماهية الحقيقة إلا إذا أخذنا اللاحقيقة والتيه بعين الاعتبار. هنا يستعيد هايدغر لحظة Héraclite الذي أكد أن أهم ما يميز الوجود هو الاختفاء، الطبيعة يروق لها الاختفاء. لذا فالاختفاء والأفول والانسحاب هي الميزة الأساسية للوجود الذي يظهر بقدر ما يختفي، وحقيقة الوجود لا تعطي نفسها إلا بقدر ما تحجبها، ولا تحضر إلا بقدر ما تتيه وفق هذا التصور تصبح الحقيقة مرتبطة بحالة أنطولوجية شديدة الحساسية تتحقق وفق لحظتين أساسيتين : لحظة انكشاف الوجود ليعبر عن حقيقته ثم انفـتاح الفكر اليقـظ ( النبيه المنتبه ) لحراسة ونقل هذه الحالة، حالة الانفتاح على الكلمة والفكرة، بهذا المعنى تصبح اللغة مأوى الوجود والإنسان حارس الوجود خاصة الفيلسوف والشاعر.

خلاصة:

إن تاريخ الفلسفة حافل بمواقف متعددة من مسألة الحقيقة، وهذا أمر له دلالته ومغزاه العميق، إذ أن التساؤل الفلسفي الذي لم يتوقف إلى حدود الآن حول مفهوم الحقيقة يدل على أن الهدف ليس في إثبات وجود حقيقة نهائية يترتب عنها تأسيس موقف وثوقي دوغمائي، وإنما الهدف يكمن أساسا في امتلاك هذه الروح العلمية وهذا التفكير النقدي الذي يجعل إثبات الحقيقة رهين بالحوار القائم على الحجج والبراهين التي هي الضامن الوحيد لتأسيس حقيقة ما. وقد تباينت المواقف بخصوص قيمة الحقيقة، بين الموقف التقليدي الذي اعتبر الحقيقة قيمة في ذاتها وجعلها مطلقة متعالية على المصالح والمنافع، وبين الموقف المعاصر الذي ربطها بالواقع والمردودية والنفع، وجعلها نسبية ومتغيرة.
إذا كان عنوان الفلسفة المعاصرة الكبير مجاوزة الميتافيزيقا، من خلال رفض المنطق الثنائي الأرسطي أي رفض الأساس الذي انبنت عليه الحقيقة كمطابقة، وبالتالي تجاوز التصور التطابقي والماهوي للحقيقة، لينظر إلى الحقيقة باعتبارها حقائق نسبية تاريخية منفتحة على ما كان يعتبر لا حقيقة مثل الخطأ والوهم والمصلحة،... إذ لم تعد هذه الأخيرة ثمرة للبرهان والحجاج، ولا نتيجة للتأمل العقلي الصرف والخلوات الطويلة كما أقر بذلك ميشيل فوكو Michel Foucault ، رفض يعكس اعتماد رؤية ومنطق مغاير أي معالجة مفهوم الحقيقة وفق منطق الاختلاف و اللاتطابق. وتتحدد الحقيقة داخل هذا المنطق وفق التصورات الآتية : الحقيقة عند نيتشه وهم، وعند فوكو سلطة، وعند باشلار خطأ مصحح، وعند فرويد الحقيقة لا شعورية، وعند وليام جيمس الحقيقة مصلحة، وعند هايدغر الحقيقة حرية...








































العلمية في العلوم الإنسانية

تقديم:
    ظل الإنسان زمنا طويلا يعتبر نفسه ذاتا للمعرفة، لا موضوعا لها، أي أنه كان يأبى أن ينظر إليه كشيء من الأشياء القابلة للدراسة الموضوعية. إلا أن المستجدات والتحولات العميقة التي حصلت في مجموعة من المجالات، وخاصة في ميدان البيولوجيا، حيث سيصطدم الإنسان بحجم التشابه بينه وبين العديد من الحيوانات من الناحية البيولوجية. آنذاك بدأ الإنسان يعيد النظر في التصورات التي نسجها حول ذاته ـ كذات متفردة - وبدأ يفكر في مدى إمكانية الاستفادة من النماذج  التي ابتكرتها العلوم الطبيعية، وتطبيقها على الظاهرة الإنسانية، أي محاولة تطبيق المنهج التجريبي في مجال العلوم الإنسانية التي كان ظهورها خلال القرن19 جد متأخر بالمقارنة مع العلوم التجريبية، إلا أن هذا المسعى سيصطدم بخصوصية الظاهرة الإنسانية المتميزة بتفردها  وتعدد أبعادها وامتلاكها للحرية، عكس الظواهر الطبيعية المجردة منها: ففي مجال العلوم الطبيعية نشيئ الموضوعات، أما في العلوم الإنسانية، فتشييئ الظاهرة الإنسانية معناه تجريد الإنسان من خصوصياته الأساسية - وعلى رأسها حرية الاختيار والإرادة - أي تشويه الظاهرة الإنسانية. ومن هنا تطرح مشكلتا الموضوعية والنموذج العلمي الملائم لها. فإذا كانت الظاهرة الإنسانية ظاهرة معقدة، فهل يمكن التعامل مع الإنسان باعتباره موضوعا أو شيئا؟ وما قيمة المعرفة التي تصل إليها العلوم الإنسانية؟ هل يمكن تطبيق المناهج التجريبية في دراسة الظاهرة الإنسانية؟ وهل تمكنت العلوم الإنسانية من تحقيق استقلاليتها عن العلوم الطبيعية و بناء نماذج و مناهج خاصة بها؟ أم أن خصوصية الظاهرة الإنسانية حالت دون بلورة خطاب علمي يرقى إلى مستوى العلوم الدقيقة؟

المحاور:
I ـ موضعة الظاهرة الإنسانية.
II ـ التفسير والفهم في العلوم الإنسانية.
III ـ نموذجية العلوم التجريبية.


         I ـ موضعة الظاهرة الإنسانية:

    المعرفة بوجه عام هي الفعل الذي يدرك الفكر أو العقل بواسطته موضوعا، ويقصد بالموضوع هنا كل ما يتجه إليه النشاط الفكري للذات العارفة. ولكن الإنسان كموضوع للمعرفة يطرح إشكالية إمكانية موضعة الظاهرة الإنسانية أو استحالتها. فهل يمكن أن يكون الإنسان موضوعا للمعرفة و ذاتا لها في نفس الآن؟ وبتعبير آخر ما شرط علمية العلوم الإنسانية؟ هل هو موضعة الظاهرة الإنسانية أي فصل الذات الملاحظة عن الموضوع الملاحظ؟ أم النظر إلى الإنسان في أبعاده المتعددة والمتفردة؟

    1 ـ عوائق موضعة الظاهرة الإنسانية (جان بياجي Jean-Piaget)
    إذا كان أوڭست كونت Auguste Comte و إميل دوركهايم Emile Durkheim  يعتبران الإنسان من منظور وضعي موضوعا طبيعيا يشبه موضوعات الطبيعة الأخرى من ناحية قابليته للتحديد العلمي الصارم وخضوعه لقوانين حتمية. مما يعني أن الظاهرة الإنسانية تقبل التكميم والتجريب، وبالتالي من الممكن جدا بل من الواجب دراسة الظواهر الاجتماعية على أنها أشياء. فإن جان بياجي يشدد على أنه من الغير الممكن بناء الظاهرة الإنسانية بشكل موضوعي قاطع، وما يعوق هذا البناء هو التداخل بين الذات والموضوع في دراسة الظاهرة الإنسانية، إذ من الصعب جدا موضعة هذا النوع من الظواهر على شاكلة موضعة الظاهرة الطبيعية. يؤكد على أن ثنائية (الذات /الموضوع) تتخذ وضعا معقدا في العلوم الإنسانية: فالإنسان هو الدارس، وهو أيضا موضوع الدراسة. وينتج عن هذا الوضع صعوبة تحقيق الموضوعية التي تعتبر أساس علمية العلوم الحقة. وفي هذا الشأن يقول بياجي: « إن وضعية العلوم الإنسانية أكثر تعقيدا لأن الذات الملاحظة لذاتها ولغيرها و المجربة على ذاتها وعلى غيرها ، يمكنها أن تتغير بحكم ما لاحظته وجربته من جهة ، كما يمكنها أن تؤثر في سير هذه الظواهر و تغير طبيعتها. لهذا تخلق وضعية التداخل بين الذات والموضوع في العلوم الإنسانية صعوبات إضافية بالمقارنة مع العلوم الطبيعية ». إن تحقيق الموضوعية يستلزم عملية إزاحة تمركز الذات حول ذاتها (أي تمركز الباحث حول ذاته ورؤية موضوعه من خلال منظوره الذاتي) لتحقيق الموضوعية ، فالعالم لا يكون أبدا معزولا عن ذاته ، بل هو ملتزم بشكل ما بموقف فلسفي أو إيديولوجي.
    2 ـ مفارقة علاقة الذات بالموضوع (فرانسوا باستيان François Bastian)
    أكد فرانسوا باستيان على أن الباحث الاجتماعي لا يستطيع الانفصال كلية عن مجتمعه الذي هو موضوع دراسته، في حين ُيعتبر هذا الانفصال مبدأ كل جهد علمي، و ما دام كل باحث هو عضو ينتمي إلى جماعة، فهو منخرط بالضرورة في صراعات اجتماعية صريحة أو ضمنية من أجل الاعتراف والحظوة والسلطة، وهي صراعا ت تحرك المعتقدات والمثل و أوجه الخير والشر، وباختصار فإن الممارسة في مجال العلوم الاجتماعية  تعيش مفارقة كبرى،  فالممارس للعلوم الاجتماعية هو جزء من الجماعة التي يدرسها وهو في الآن نفسه مطالب بأن يظل بعيدا عما يرتبط به من قيم. وبالتالي يستحيل مبدئيا أن تتمكن العلوم الإنسانية من بلوغ موضوعية مطلقة، وقد عبر عن ذلك باستيان بقوله: « لا يمكن للباحث الانعزال أو الابتعاد عن العالم الاجتماعي، حتى ولو رغب في ذلك ». أو كما يقول نوربرت إلياس: « لا نحتاج لكي نفهم جزئية من جزئيات الذرة أن نحس بأنفسنا كما لو كنا ذرة من الذرات، لكن للنفاذ إلى داخل التجربة الجماعية والفردية ولفهم نمط اشتغال الجماعات البشرية لا بد من مشاركة وانخراط فعالين في هذه التجارب ».
  
    خلاصة:
    هناك فرق جوهري لا يمكن تخطيه بين موضوع العلوم التجريبية وموضوع العلوم الإنسانية. فالظاهرة الإنسانية ظاهرة متفردة ومعقدة ومتعددة الأبعاد، وبالتالي فإن كل اختزال للوحدة المتكاملة للإنسان في بعد من أبعاده، أو تشييئ للإنسان بموضعته يفقده حقيقته، إذ يبقى الوعي العائق الرئيسي لتحقيق علمية في العلوم الإنسانية شبيهة بالعلمية المحققة في العلوم التجريبية، وهذا يتجلى في تداخل الذات والموضوع المميز لعلوم الإنسان. يقول أب الأنتربولوجيا البنيوية كلود ليفي ستروس: » إذا كانت العلوم الإنسانية علوما بالفعل، فينبغي عليها أن تحافظ على ثنائية الملاحِظ والموضوع الملاحَظ، وأن تعمل على نقلها إلى داخل الإنسان. وإن أرادت هذه العلوم الإنسانية أن تتخذ من العلوم الحقة نموذجا لها، فلا ينبغي أن تتخذ الناس الذين تلاحظهم موضوعا لتجربتها وحسب، بل ينبغي أيضا أن لا يشعر هؤلاء الناس بأنهم موضوعات للتجربة، وإلا غير حضور وعيهم مسار التجربة بطريقة غير مرئية، وهكذا يبدو أن الوعي هو بمثابة العدو الخفي لعلوم الإنسان «.

         II ـ التفسير والفهم في العلوم الإنسانية.

    بعد تعيين العلوم الإنسانية لموضوعها، كيف لها أن تقاربه؟ وهل تستوفي هذه المقاربة شرط العلمية وعن أي شرط نتحدث؟ إذا كان النموذج الذي أُثبـت فائدته وجدواه لمقاربة الظواهر هو نموذج العلوم التجريبية، فهل للعلوم الإنسانية أن تقتبس هذا المنهج، أم أنها مطالبة بالتمرد ضد استبدادية نموذج علوم الطبيعة لتشق لنفسها طريقها المنهجي الخاص بها والذي يلائم خصوصية الظواهر الإنسانية؟ فالأمر هنا يتعلق بوظيفة النظرية في العلوم الإنسانية، هل هي تفسيرية أم تفهمية؟ هل بالإمكان إخضاع الظواهر الإنسانية للتفسير السببي، كما هو الشأن في الظواهر الطبيعية، أم أن خصوصية الظواهر الإنسانية تقتضي الفهم دون التفسير؟ وهل ترتبط الظواهر الإنسانية مع بعضها البعض بعلاقات ثابتة تجعل من بعضها سببا للبعض الآخر مما يسمح بصياغة هذه العلاقات في قوانين تفسر تلك الظواهر وتتنبأ بها أم أن الظواهر الإنسانية لا تحكمها العلاقات السببية الثابتة ولا القوانين التفسيرية، بل يحكمها الوعي والقيم والغايات والدلالة والمعنى والمقاصد مما يستوجب فهمها أو تفهمها؟

    1 ـ الظاهرة الإنسانية بين التفسير والتنبؤ (كلود ليفي ستراوس Claude Lévi-Strauss)
    يقصد بالتفسير هنا كشف العلاقات الثابتة الموجودة بين حادثتين أو أكثر، وإقامة علاقات سببية بينها بموجب ذلك. وهذا هو التفسير السببي، أما التفسير الغائي فقد أهمله العلم. ولا يلائم التفسير السببي سوى الظواهر المتماثلة المطردة والقابلة للتكرار ليتم التعميم ( تفسير سقوط الأجسام بقانون الجاذبية). وقد ارتبط منهج التفسير بالاتجاه الوضعي وخصوصا مع دوركهايم الذي حاول الرقي بعلم الاجتماع إلى مصاف العلم الدقيق بعيدا عن المناهج التأملية، بعد أن اعتقد أنه من الممكن دراسة الظاهرة الاجتماعية دراسة علمية وفق " قواعد منهجية" خاصة بعلم الاجتماع مثلا، والحصول على نتائج جد مقنعة كما تم ذلك في دراسة ظاهرة الانتحار من طرف دوركهايم نفسه. بل ذهب أوجست كونت إلى أنه من الممكن أن يصبح علم الاجتماع مثلا علما حقيقيا، ولذلك يمكن اعتباره " فيزياء اجتماعية "، ويدل هذا النعت على إمكانية استعمال المنهج التجريبي كما هو الشأن في الفيزياء والحصول على نتائج يقينية...
    بالنسبة لستراوس إذا كانت العلوم الدقيقة قد حققت تقدما بفضل عمليتي التفسير والتنبؤ، فإن وضع العلوم الإنسانية ما زال يتأرجح بين التفسير والتنبؤ، بل إنها علوم محكوم عليها أن تبقى في وسط الطريق بين التفسير( أي تقديم الأسباب التي تحدد ميلاد الظواهر وتحولها )  والتنبؤ ( أي افتراض حدوث ظاهرة محددة بناء على قانون علمي ). يقول ستراوس: « لقد اكتفت العلوم الإنسانية، إلى حدود اليوم، بتفسيرات فضفاضة و تقريبية تنقصها الدقة دائما… والحقيقة أن العلوم الإنسانية تجد نفسها في وسط الطريق بين التفسير والتنبؤ، كما لو كانت عاجزة عن السير في اتجاه التفسير أو في اتجاه التنبؤ... إن العلوم الإنسانية لا تفسر الظواهر تفسيرا نهائيا ، ولا تتنبأ… غير أنها تقدم للممارسين شيئا وسيطا بين المعرفة الخالصة والمعرفة النافعة...»، وذلك نظرا لخصوصية الظاهرة الاجتماعية مقارنة بالظاهرة الطبيعية. فما يعوق بلوغها التفسير والتنبؤ هو صعوبة تحقيق الموضوعية في مجال يكون فيه الموضوع هو الذات، إذ يؤكد ستراوس على أن « الوعي هو بمثابة العدو الخفي لعلوم الإنسان ». هكذا تمتد وظيفة العلوم الإنسانية في المسافة الممتدة بين التفسير والفهم، إذ تبقى تفسيراتها فضفاضة وتقريبية.

    2 ـ الإنسان يُفهم (فيلهلم دلتاي Wilhelm Dilthey)
    يرى رواد علم النفس التجريبي أن الظاهرة النفسية هي ظاهرة فيزيولوجية تفسر كباقي الظواهر الطبيعية. في حين انتقد دلتاي هذه التبعية للعلوم الطبيعية بقوله: إننا « نفسر الطبيعة ونفهم الحياة النفسية »، مشددا على أن تستعمل العلوم الإنسانية الفهم بدل التفسير، فطبيعة هذه العلوم تمنعها من قبول المنهج التجريبي لأن استيراده إليها من خارجها يعني تحويل موضوعها إلى شيء وطمس خصوصيتها وتميزها ببعدها الإنساني. يجب إبداع منهج ملائم للعلوم الإنسانية من داخل العلوم الإنسانية ووفق احتياجاتها واحترام مميزاتها. إذ لا يصلح التفسير ولا التنبؤ لغياب الضرورة والحتمية والثبات والتكرار مثلما هو الأمر في عالم الأشياء الطبيعية، ويحل الفهم كبديل يدل منذ المنطلق على تعامل الوعي مع الوعي كموضوع، ومع الذاتية كمكون موضوعي وليس ذاتيا. إن للعلوم الإنسانية في نظره الحق في أن تبني منهجها وتحدد وظيفتها انطلاقا من خصوصية موضوعها، فإذا كانت العلوم الطبيعة تفسر الطبيعة فإن العلوم الإنسانية تفهم الإنسان، باعتباره كلا لا يتجزأ، وهو ما يجعل المناهج التي ندرس بها الحياة الروحية والتاريخ والمجتمع تختلف عن المناهج التي تقود إلى معرفة الطبيعة. و المقصود بالفهم إدراك الدلالة التي يتخذها الفعل بالنسبة للفاعل، وتتكون هذه الدلالات من المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل وتتحدد بالقيم التي توجهه، لأن الفاعل الإنساني يمنح دلالة لأفعاله وللعالم من حوله ويتصرف وفق غاية أو قصد من حيث هو كائن واع.
    ويقدم لنا التحليل النفسي مثالا نموذجيا لعلم إنساني يكاد يعتمد كلية على الفهم بمعنى التأويل: إذ تُتناول مختلف الظواهر النفسية السوية منها والمرضية، بما في ذلك الأحلام كعلامات حاملة لدلالات يتعين تأويلها ( فهمها ) وذلك بتجاوز المعاني الظاهرة والمقاصد الواعية، لدرجة دفعت الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كان التحليل النفسي علما أو فنا في نهاية المطاف! أما في علم الاجتماع، فيقدم لنا ماكس فيبر Max Weber في دراسته الرائدة حول "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" مثالا آخر لتطبيق منهج الفهم بتركيزه على القيم المشتركة بين كل من السلوك الرأسمالي والموقف الأخلاقي البروتستانتي. وليس غريبا أن يقع اختيار ماكس فيبر على ظاهرة فريدة هي نشأة الرأسمالية في أوروبا، لأن منهج الفهم لا يهدف أصلا إلى اكتشاف انتظامات أو علاقات سببية قابلة للتعميم على نطاق واسع.

    خلاصة:
    إذا كانت العلوم الحقة حققت تقدما بفضل عمليتي التفسير والتنبؤ، بينما الوضع في العلوم الإنسانية مخالف تماما لأن الظاهرة تحمل من العمق الدلالي والرمزي ما يجعل مسألة التفسير والتنبؤ غير ممكنة، ويفرض على الباحث منهجا يلائم طبيعة الموضوع منهجا يقوم على الفهم. وسواء كانت النظرية في ميدان العلوم الإنسانية تفسر الظواهر أو تفهمها، فإنها وفي كل الأحوال تغني فهمنا للواقع الإنساني المعقد بطبيعته والمتميز بتفرده وتعدد أبعاده... 


         III ـ نموذجية العلوم التجريبية.

    إن الوضع الإبستيمولوجي الذي تعرفه العلوم الإنسانية يفرض عليها التفكير بجدية في نموذج منهجي ينسجم وطبيعة الظاهرة. وتبني المنهاج التجريبي كنموذج يطرح عدة إشكالات تجعل من الملاحظة مسألة صعبة للغاية نظرا للحركية التي تعرفها الظاهرة إضافة إلى بعدها الرمزي. وهذا ما دفع ميرلوبنتي إلى التشكيك في قدرة المنهج التجريبي على النفاذ إلى عمق الظاهرة، لأن أي محاولة لعزل الظاهرة يؤدي إلى تجميدها وفقدانها خصوصيتها. بل إن محاولة بناء نموذج علمي اصطدمت بعوائق منهجية وإبستيمولوجية وإيديولوجية جعلت تحقيق الموضوعية أمرا صعبا إن لم نقل مستحيلا، نذكرمنها:
♦ استحالة التجزيء، فالظاهرة الإنسانية معقدة ومتعددة الأبعاد فهي نفسية اجتماعية ثقافية دينية... إذ لا نستطيع فهم مثلا ظاهرة البطالة دون ربطها بالنظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتاريخي والنفسي...
♦ الحضور القوي للإيديولوجيا، فالمجتمع الطبقي يعرف نوعا من الصراع المطبوع بالبعد الإيديولوجي الذي يؤدي إلى تنوع التصورات والتوجهات والاختيارات التي تؤثر على البحث وتوجهه .
♦ تبني النزعة التجريبية يؤدي إلى الانسياق وراء الظاهرة الملموسة والملاحظة المباشرة، ويشكل بذلك عائقا إبستيمولوجيا غالبا ما يعوق أو يمنع من الوصول إلى البنية الخفية للظاهرة. إن النزوع نحو بلوغ المعرفة الموضوعية يجعلنا نهتم بالإنسان في بعده الواقعي أو الجانب الظاهر ونهمل الجانب الرمزي لوجوده، الجانب المتعلق بالخفي، فالظاهرة الإنسانية تحمل من الكثافة الرمزية ما يحتاج إلى دراسات متنوعة لفهمها، و تبقى الموضوعية محدودة على حد تعبير جان بياجي.        
    لقد أدت مسألة العلمية في العلوم التجريبية وأسبقيتها التاريخية و نموذجيتها بالنسبة للفكر الإنساني الموضوعي، إضافة إلى سيادة النزعة العلموية والاختبارية، بعلوم الإنسان إلى البحث عن موضوعية مشابهة وإلى تبني نموذج العلمية في العلوم التجريبية كنموذج مطلق. لكن العوائق التي ترتبت عن هذا الاختيار من تشويه لطبيعة الموضوع المدروس، وانحرافات منهجية فرضت التشكيك في هذا الاختيار بل التراجع عنه. فبأي معنى وضمن أية شروط يمكن الحديث عن "علوم إنسانية" ؟ يحاول البعض استلهام مناهج العلوم الطبيعية التي أثبتت فعاليتها، بينما يسعى آخرون من أجل ابتكار منهج أصيل بدعوى عدم وجود معيار أو نموذج وحيد للعلمية. وبعبارة أخرى، يسعى البعض إلى الاستفادة من المكتسبات المنهجية للعلوم الحقة، بينما يجتهد آخرون لتأسيس نموذج مغاير لنموذج علمية العلوم التجريبية صونا لخصوصية الظاهرة الإنسانية المتعددة الأبعاد والمتجذرة في المعيش الكلي للإنسان. فهل تقبل العلوم الإنسانية نموذجية العلوم التجريبية أم عليها أن تؤسس نموذجها الخاص بها؟ 

    1 ـ العلمية المشروطة (فيليب جان بيير وارنيي و فيليب لابروت طولرا Jean-Pierre Warnier et Philipe Laburthte-Tolra)
    إذا كان إيميل دوركهايم يرى أن الظواهر الاجتماعية تشكل أشياء ويجب أن تدرس كأشياء وفي انفصال تام عن الأفراد الواعين الذين يمثلونها نفسيا وفكريا بما فيهم الباحث، أي علينا أن ندرسها من الخارج كأشياء منفصلة عنا. وهو بذلك يدعو صراحة إلى محاكاة النموذج العلمي الموجود في ميدان العلوم التجريبية و التماهي معه. فإن بيير وارنيي و لابروت طولرا يؤكدان على التفاعل مع نموذج العلوم التجريبية بالشكل الذي يحقق الموضوعية ولا يلغي فاعلية الذات، خصوصا وأنه لا وجود لقطيعة مع علوم الطبيعة على مستوى تدخل الذات. فحسب "طولرا" و"وارنيي" تتوحد الذات بالموضوع في علوم الإنسان، ويصبح الملاحِظ ملاحَظا في نفس الوقت مما يدع مجالا كبيرا للشك في مصداقية النتائج المحصل عليها. لكن إذا تأملنا في ما يميز الفيزياء المعاصرة من تداخل بين الذات الباحثة والموضوع المبحوث بسبب عدم إمكانية اعتماد التجربة العلمية الكلاسيكية عند دراسة الموضوع اللامتناهي الصغر، وهو الأمر الذي يتطلب تدخل الذات، دون أن يقلل من علمية النتائج المحصل عليها رغم تدخل الذات الباحثة. وبالتالي فإن تداخل الذات والموضوع في العلوم الإنسانية لن يكون عائقا أمام العلمية، مادام هذا النموذج من العلاقة بين الذات والموضوع أصبح موجودا في العلوم التجريبية نفسها وهي النموذج المحتذى به.
  
    2 ـ حدود العلم الموضوعي (موريس ميرلوبونتي Maurice Merleau-Ponty )
    أما ميرلوبونتي فيشكك في قدرة المعرفة الموضوعية على النفاذ إلى عمق الوجود الإنساني، ما دام الإنسان هو مصدر المعنى، وهو الوحيد في الكون المتميز بالتفرد والأصالة، وأنه غير قابل للاختزال في الخلايا المكونة لجسمه، أو إلى مكونات الإنسان الكلاسيكية مثل العقل والسياسة والاجتماع... كما أنه ليس ظاهرة واعية منفصلة عن مكوناتها الأخرى مثل الغرائز والمكونات اللاعقلية واللاواعية... وليس بوسع أي علم أن يستغرق وحده دراسة الإنسان... لأنه كل لا يتجزأ، وهو المنبع لكل ما عداه وما يكونه، وباعتباره كذلك لا يمكن إعادة تشكيل حياته بِعَدِّ وحصر ودراسة مكوناته... إن المعرفة الموضوعية في نظره تُشيّئُ الإنسان وتجزؤه وتتجاهل تجربته الذاتية التي هي أساس وجوده الموضوعي. لهذه الأسباب يدعو ميرلوبونتي  إلى القطيعة التامة مع نموذج العلوم التجريبية في ميدان العلوم الإنسانية لما في ذلك من موضعة ونسيان للمعيش اليومي، ولابد من الرجوع إلى الإنسان كذات مولدة للمعنى والقيم تعيش في هذا العالم مع الغير. يعيب ميرلوبونتي على المعرفة العلمية الوضعية أهمية تجربة الذات في العالم، تلك التجربة المعيشية التي تشكل أساس المعرفة بذواتنا وبالعالم، فالذات هي المصدر المطلق لكل معرفة.
 
    خلاصة:
    هناك من اتخذ من المنهج التجريبي منهجا للعلوم الإنسانية وبشكل مطلق أو مع بعض التعديلات الطفيفة التي تفرض نفسها، وهناك من رفضه بحجة أن الإنسان يدرس ككل متكامل وأنه كائن لا يمكن التعامل معه إلا من منطلق المعنى والقصد  والتأويل والشعور واللاشعور والأخلاق والقيم... لكن هذا النقاش الإبستيمولوجي حول مسألة علمية العلوم الإنسانية سمح بالتعرف على خصوصية الظاهرة الإنسانية وما تعرفه من تفرد وتعقد، وساهم أيضا في إعادة التفكير في العلوم الحقة باعتبارها النموذج الوحيد للعلمية، وأكد على أهمية الذات باعتبارها وعيا وقدرة على التدخل في المعرفة وبناء النظريات.           

مسألة العلمية في العلوم الإنسانية
نموذج : علم الاجتماع ( السوسيولوجيا)

لقد سبق، ضمن مسالة العلمية في العلوم الإنسانية، التعرف على الإشكالات الإبستيمولوجية التـي تطرحها هذه العلوم بمختلف تخصصاتها، السيكولوجيا (علم النفس)، والسوسيولوجيا (علـم الاجتماع) و علم التاريخ، وهي: مشكلـة الموضوعية، مشكلة الفهم والتفسير، ومشكلة نموذج العلمية. ولأجل الاقتراب من هذه الانشغالات الإبستيمولوجية، نتعرف عليها من خلال نموذج لأحد العلوم الإنسانية هو علم الاجتماع (أو السوسيولوجيا)، وهو نموذج لهذه العلوم نظرا لما يطرحه من قضايا نظرية ومنهجية تتعلق بشروط إمكانية علمية هذه العلوم المسماة إنسانية أو استحالتها، إذ أن عالم الاجتماع عندما يقدم علـى عمله، وهو دراسة المجتمع، يواجه عدة مشاكل ترجع كلها إلى طبيعة علاقة الذات الدارسة بالموضوع المدروس، وهي علاقة تتسم بالتعقيد والتداخل من جهة وبكونها علاقة واعـية تتدخل فيها الإرادة و القصد من جهة أخرى، بالإضافة إلى أن اقتران ميلاد هذا العلم (ق19) مع " أوڭست كونت " الـذي استوحى الروح العلمية (الوضعية) والنموذج العلمي من العلوم الحقة ودعا إلى الإقتداء بها في دراسة الظواهر الاجتماعية، قد أثار تساؤلات واختلافات، حول صلاحية هذا الإقتداء ومدى ملاءمته لطبيعة  هذه الظواهر، بين مدارس واتجاهات علم الاجتماع التي تعبر عن مواقف متباينة من المجتمع وكيفية دراسته والرهانات المعرفية والسياسية المستهدفة من البحث الاجتماعي. تمثل هذه المؤشرات صورة مركزة عن مسالة العلمية في علم الاجتماع، وهي المسألة التي سنقاربها من خلال التساؤل حول موضوع علم الاجتماع وحول منهجه وحول النظرية الاجتماعية.

موضوع علم الإجتماع :
كيف يتم بناء موضوع علم الاجتماع ؟
    إ. دوركهايم:
    إن الوقائع الاجتماعية هي موضوع علم الاجتماع، وذلـك يتطـلب تعريف وتحديد الواقعة الاجتماعية وعزلها عن غيرها من الظواهر التي تحدث في المجتمع وعن ذات عالم الاجتماع. فما هي إذن الواقعة الاجتماعية؟ « الواقعة الاجتماعية هي كل طريقة في الفعل، ثابتة أولا، وقادرة على ممارسـة إكراه خارجي على الفرد ثانيا، وتكون عامة في المجتمع ومستقلة عن كل مظاهرها الفردية ». بهذا التعريف تصبح الظاهرة الاجتماعية موضوعا مستقلا عن الأفراد وذات طابع عام وجمعي وتُمارَس قسرا وإلزاما على الأفراد ولها طبيعة سلوكية ثابتة.

    جان ك. بابيي: إن ما يضفي الصبغة العلمية على السوسيولوجيا هو الروح العلمية التي يجري بها السوسيولوجيون أبحاثهم، إذ يرتكز المسعى العلمي للبحث الاجتماعي على : تحديد المشكلات الاجتماعية التي هي موضوع الدراسة وتفسيرها أعتمادا على نظريات اجتماعية تطور و تقابل  بوقائع تجريبية وتستند على مسلمات تحدد النموذج النظري أو التصور الشامل الموجه للبحث
  

منهج علم الإجتماع
بأي منهج يتناول عالم الاجتماع الظاهرة الاجتماعية بالفـهـــــم أم بالتفسيــــر؟

ماكس فيبر: إذا كان السلوك الإنسانـي يكشف عن ترابطات وانتظامات تقبـل أن تكون موضوع تأويل تفهمي ، فإن مهمـة
السوسيولوجيا التفهمية هي دراسة السلوك الإنساني الذي يتميزبكونه: - سلوك يرتبط بسلوك الغيرتبعا للقصد الذاتي للفاعـل. - سلوك مشروط خلال تطوره بهذه العلاقـة الدالة والبينذاتية. – سلوك يقبل التفســير التفهمي انطلاقا من المعنى المقصود للفاعل فهي تدرس العلاقات الدلالية للسلوك ...

إيان كريب: ينطلق من التمييز في علم الإجتماع بين التفسيرالسببي ( آلية سببية )و بين التفسيرالغائي .فالتفسيرالسببي للمجتمع
لا يعني أن السبب هوحادث أوشيء ما بل عني ترتيب معين للعلاقات يكون آليــة سببية إذا انطلقت تؤدي إلى نتائج معينة..،
أما التفسير الغائي فينصب على تفسيرأفعال لفاعلين (واعون بها – لهم حسابات -ومقاصد ونوايا) حيث يصبح سبب الفعـل هوقصد الفاعل من الفعل أي الغاية منـه ، وتفسير الفعل هنا يتم بنتيجته التي تتـحول لى سبب للفعل  .

   نظريات علم الإجتماع
ما هي طبيعة النظرية الاجتماعية ؟
ربير.ك.ميرتون: يلخص التاريــخ المعاصر للنظريات الإجتماعية في ميـدان السوسيولوجيا في صنفين من النـظريات تعبر عن توجهين متعرضين : النظرية الشمولية : يمثلها لفيف من علماء الإجتماع اهتموا بصياغة قوانين اجتماعية يعملون على تعميمها، ويقتصر عملهم بعد ذلك على التحليل الصوري لقوانينهم العامة عوض التحقق الإختباري من صحـــة منطلقاتها وإهمال الملاحظات الجزئية التي تهم المستويات الصغرى للحياة الإجتماعية.
النظرية الإختبارية : يمثلها جماعة جسورة من علماء الإجتماع يتفرغون في أبحاثهـم لجمع بيانات صحيحة عن الوقائع التي هي موضوع بحثهم ، وهي وقائع قابلة للتحقق من صحتها ، غير أنهم لايحاولون الربط بين تلك الوقائع لبناء تركيب بينها.
          
    كنماذج للنظريات السوسيولوجية نذكر :

النظرية الوضعية: تقول بالتفسير السببي...
النظرية التفهمية : تقول بفهم المقاصد ...
النظرية الوظيفية : تقول بدور الوظيفة في النسق الاجتماعي ...

































Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

مفهــوم الغيــــر - العلاقة مع الغير

  مفهــوم الغيــــر       III- العلاقة مع الغير :     تتعدد أوجه العلاقة بالغير وتتخذ أبعادا مختلفة بين الابن وال...