13 déc. 2014

مفهــوم الغيــــر - معرفة الغير

 مفهــوم الغيــــر 



    - معرفة الغير: 
الإشكال: هل معرفة الغير كأنا آخر ممكنة؟ وكيف يمكن للأنا أن يعرف الغير وينفذ إلى أعماقه ؟

   1-   موقف سارتر: معرفة الغير غير ممكنة دون تشييئه وتجريده من مقوماته الإنسانية.
    هل من الممكن تحويل الغير إلى موضوع للمعرفة ؟ بالنسبة لسارتر، إن أي محاولة لإخضاع الغير لنشاط التفكير تعني تجريده من الذات والوعي والحرية أي تجميده. وهنا تبدأ الإشكالية، لأنه يفقد خصوصيته ومقوماته كوعي وكحركة وكإرادة، وبالتالي يستحيل معها التواصل لأن الأنا قام بتشييء الغير وجمد فاعليته .
    يقوم سارتر بالفصل بين الأنا والغير ويحدده في الصراع القائم أولا بين الجسم والذات، وثانيا بين أنا وأنا أخرى، فسارتر يدرك الأنا الأخرى إدراكا إمبريقيا (حسيا) إنه إدراك للجسم، أي أن إدراك الغير يتم عبر الجسم، وبهذا الشكل تنفصل الذوات عن بعضها البعض ولا تؤثر في كينونتها على بعضها البعض، أي أن وجود الواحدة لا يتوقف على وجود الأخرى. يقول سارتر، إنه لما كان لا يمكن للغير أن يؤثر في كينونتي بكينونته، فان الكيفية الوحيدة التي يمكن أن ينكشف لي بها هي أن يتجلى لمعرفتي كموضوع . أي أن الأنا هو الذي يكون صورة ذهنية للغير ضمن حقل التجربة. وضمن هذا الحقل تنشأ العلاقة بين الأنا والغير وبمجرد ما يدخل حقل نظرتي حتى أجمده وأحوله إلى شيء ، ونفس الشيء نظرة الآخر تقيدني وتحد من حريتي وتشل تلقائيتي ، وتصبح معرفة الغير مجرد انطباع لا أقل ولا أكثر. إن سارتر اهتم بمعرفة الغير من موقع العقل القائم على مبدإ الحكم والاستدلال، لهذا يقول إني أرى و أقيم حسب ما أعتقد بأن الآخرين يرونني ويحكمون به علي، وهنا اشعر بخيبة الأمل؛ ويزداد الجحيم كلما كانت علاقتي بالآخرين فاسدة وملتوية فالجحيم هم الآخرون.
    إذن معرفة الغير معناها تحويله إلى مجرد موضوع من موضوعات العالم، ولا يمكن أن تتحقق إلا بتشييئه وتجريده من ذاتيته. إن هذه العلاقة المعرفية بين ومع الغير يطغى عليها الصراع والتشييء المتبادل وعدم القدرة على التواصل، مما يدفع كل ذات إلى الانطواء على نفسها والبقاء محتجبة وراء فرديتها الخاصة ما دام " الآخرون جحيم". فهل العلاقة المعرفية مع الغير هي العلاقة الوحيدة الممكنة للتواصل مع الغير؟ أم بالإمكان بناء علاقة مغايرة؟

    2-   موقف ميرلوبونتي: معرفة الغير ممكنة من خلال التواصل.
    يرى ميرلوبنتى بأن نظرة الغير لا تحولني إلى موضوع ، كما لا تحوله نظرتي إلى موضوع . لأن الغير عكس ما تصوره سارتر انه ذاتا تنفعل لها سلوك  Comportement  فالغير حالة خاصة لها حياتها يمكن من خلال الصداقة أن أشاركه مثلا الحزن. فالصورة التي أعطاها سارتر للغير باعتباره جحيما تزول بمجرد ما ينطق هذا الغير بكلمة، أي بمجرد ما تدخل الذات في تواصل مع الغير تتحطم فكرة التعالي عن الأنا الآخر. لكن هذا الغير ليس مجرد سلوك أو تصرفات يكفي أن نتواصل معه لمعرفته، لأن هناك باطنا نفسيا خاصا بها لا يمكن النفاذ إليه ، مثلا لا أستطيع أن أشارك الغير أحزانه مهما بذلت من مجهود كل ما أقوم به هو التعبير عن شعوري بالتأثر، فالحياة النفسية للغير حياة خاصة تبدو مستحيلة عن الأنا، وهذا ما ستعمل على إنجازه مدرسة التحليل النفسي مع فرويد، فالغير أحيانا يكون وسيطا ضروريا لبلوغ أعماق اللاشعور مثال المحلل النفسي .
    وفي نفس السياق نجد موريس ميرلوبونتي يعتبر معرفة الغير ممكنة من خلال التواصل معه والاعتراف به والحفاظ على خصوصيته كغير مختلف مع احتضانه و التعايش معه من خلال المشاركة الوجدانية، مما تتيح للأنا قياس ما يظهر على الغير من سلوكات أو أقوال على الذات و بالتالي الوصول إلى معرفة يقينية بالغير. إن الغير ذات تتجلى أولا كجسد، لكن الجسد ليس مجرد كتلة بيولوجية كما نظر إليه سارتر وإنما ككيان يحس ويبصر ويسمع ويدرك وكأداة إيحاء وتعبير واتصال وتواصل.    إن اللغة كإمكانية للخروج من الذات والاتجاه نحو الآخر ستلعب الدور الرئيسي في هذا المستوى. يقول ميرلوبونتي: « داخل تجربة الحوار تتكون بين الأنا والآخر أرضية مشتركة ويكون تفكيري وتفكيره نسيجا واحدا»، إذ لا يوجد الغير وجودا معزولا عن الذات التي تدركه وإنما وجودا مرادفا للمعية ( يوجد معه )، وبالتالي فإن معرفته لا تتم كموضوع وإنما كذات أخرى تقتضي التعاطف والتفهم والإحساس المتبادل والاعتراف المتبادل. وخلاصة القول معرفة الغير ممكنة من خلال التواصل والحوار.

    3-   موقف هوسرل: إمكانية التوصل إلى معرفة الحياة الداخلية للغير انطلاقا من تجاربنا الشخصية في الحياة.
    يرى هوسرل أن معرفة الغير لا تمر عبر وسائط البرهان العقلي كما يعتقد ديكارت، بل تنطلق من إدراك الجسد؛ ذلك لأن الغير يقدم نفسه كجسد ويتجلى من خلاله؛ فعندما أرى جسد الغير أفهم تعبيرات ملامحه في ضوء تجربتي مع جسدي الذي هو المحل الذي تجري فيه وقائع حياتي الشعورية، ويحصل لي اليقين على الفور بأن الجسد الماثل أمامي ينطوي في أحشائه على حياة شعورية داخلية. فإن رأيت احمرارا على وجنتيه أدركت على الفور أنه يعاني من الشعور بالخجل، لأنني مررت بهذه التجربة الشعورية في السابق وكان لها نفس الأثر على وجهي باديا للعيان. لقد أدركت ذلك على الفور عن طريق ما يسمى بالاستدلال بالمماثلة. يشتغل هذا النوع من الاستدلال على النحو التالي:
1.        أنطلق من نفسي، فألاحظ وجود علاقة بين جسدي وبين تجاربي الشعورية وحالات الوعي التي أمر بها؛
2.        ألاحظ وجود تشابه بين جسمي وجسم الغير؛
3.        أستنتج وجود حياة شعورية ووعي في جسد الغير، ووجود علاقة بين جسده ووعيه.
    فبواسطة هذا الاستدلال يمكنني أن أستنتج من قسمات وجه الغير وسماته الفيزيولوجية حالاته النفسية أو الشعورية بشكل مباشر، لأن أسلوب الاستدلال المعتمد يقوم المقارنة التلقائية غير المفكر فيها (=لا تستخدم العمليات العقلية المجرد) بين أحوال جسدي وأحوال جسد الغير. والدليل على أن هذا النوع من الاستدلال لا يعتمد على العمليات العقلية المجردة هو أن الطفل الصغير يمتلك القدرة على إدراك التجارب الشعورية للآخرين بشكل تلقائي وفقا لطريقة الاستدلال بالمماثلة. وما يأخذ على هذا المنهج هو أنه جعل من الأنا المرجع الذي تقاس عليه أحوال الغير، ويكون من السهل أن يسقط الفرد حالاته الشعورية على الغير. هذا بالإضافة إلى أن الغير كما يتبدى في ضوء هذا المنهج هو الغير كما أتصوره أنا وليس الغير كما يتصور نفسه، فله عندي دلالة خاصة قد تختلف عن الدلالة التي يضفيها هو على وجوده.
    ولتجاوز هذه الصعوبة اقترح سارتر منهجا آخر يقوم على تصور مختلف لحقيقة الغير بوصفه أنا آخر. إن حقيقة الغير، في نظره، ليست من جملة الحقائق الباطنية المستغلقة على الفهم والملاحظة، بل هي قضية أحوال لها تمظهرات شتى عبر سيرورة الحياة، تتجلى من خلال سلوكاته، وكيفية تنظيم مجالات حياته وهيكلة محيطه وبشكل يجعله يحمل بصمات تجاربه الشعورية كالخوف والقلق وما إلى ذلك، بحيث يمكن القول إن التجارب الشعورية للغير تلون عالمه وسلوكاته وتصرفاتها.
    معرفة الغير إذن ممكنة من وجهة نظر الفيلسوف إدموند هوسرل، فالغير يمكن التعرف عليه لا بوصفه موضوعا يشبه أشياء الطبيعة و لا بوصفه ذاتا تشبهني لأن هذا الإدراك لا يتعدى كل ذات مفردة، على اعتبار أن كل أنا يشكل ظاهرة للعالم، بل بوصفه ذاتا تشبهني و تختلف عني في نفس الوقت، ووسيلة التعارف بين الأنا و الغير تكمن في مجال عالم التجارب أو الخبرات المشتركة أو ما يسميه هوسرل بعالم البينذاتية الذي يرتكز على التوافق الباطني أو التوحد الحدسي كآلية للتعارف.

    4
موقف بيرجي: معرفة الغير غير ممكنة، لأن تجربته هي تجربة أنا منعزلة في العالم و غير قابلة لأن تدرك من طرف الغير.
    على عكس ما ذهب إليه هوسرل و مرلونبونتي من إيجابية في الإجابة على إشكال هل معرفة الغير ممكنة؟ نجد الفيلسوف والسلوكي الفرنسي غاستون بيرجي يعتبر أن معرفة الغير غير ممكنة، لأن تجربته هي تجربة أنا منعزلة في العالم و غير قابلة لأن تدرك من طرف الغير، فبين الأنا و الغير جدار سميك و سياج مغلق لا يمكن تجاوزه،  فمعرفة الغير من خلال الأنا شيء مستحيل لأن لكل منهما عالمه الخاص. و في الإطار نفسه، انطلق مالبرانش من مسلمة أن الحقيقة أمر نسبي و أن التماثل و التشابه بين إحساسات الأنا و إحساسات الغير غير ممكن، الشيء الذي ينفي فرصة التعرف على الغير.
فهل يمكن و الحال هاته أن نعلن استحالة معرفة الغير و أن نجعل من الذوات جزرا و قلاعا حصينة ومغلقة؟
    يرفض ماكس شيلر القول باستحالة معرفة الغير، و يرى أن مثل هذا التوجه الفلسفي يتأسس على منطلقات ميتافيزيقية واهية، وهي تقسيم الوجود الإنساني إلى ثنائية ( نفس/ جسد، ظاهر/ باطن) و الحقيقة أن الغير كلية غير قابلة لأن تجزأ ولا يحيل فيه ظاهر مادي على باطن نفسي، أو وجود عميق مستحيل المنال، بل إن حقيقة الغير تتجسد فيه كما يظهر للأنا. إن حركات التعبير الجسدية لديه حاملة لدلالتها مباشرة كما تظهر.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

مفهــوم الغيــــر - العلاقة مع الغير

  مفهــوم الغيــــر       III- العلاقة مع الغير :     تتعدد أوجه العلاقة بالغير وتتخذ أبعادا مختلفة بين الابن وال...