13 déc. 2014

مفهوم الشخص - الشخص والهوية



مجزوءة الوضع البشري
    مدخل:
    يتميز الوجود البشري بتعقده وتحدده بشروط ذاتية وتفاعلية وتاريخية. وهذا التحديد التضافري للإنسان يعني أولا أن الوجود الإنساني يخضع لشروط تضفي عليه طابع الضرورة،  ويدل ثانيا على بعد خاص لدى الإنسان يتمثل في قدرته على المبادرة والتباعد والوعي، أي على تفاعل حر مع الآخر ومع المحيط، وعلى إنتاج ومراكمة منتوجات داخل الزمان. وهكذا تمثل موضوعات الشخص والغير والتاريخ أبعادا ثلاثية للوجود البشري:
    ـ بعد الوجود الذاتي المحدد بالوعي والقدرة على تمثل الذات وتملكها من خلال تفكير متباعد. وهو ما سنتناوله من خلال مفهوم الشخص، بوصفه مفهوما يطرح مسألة الذات وهويتها وقيمتها وما يتصل بها من قضايا كالوعي والإرادة والتطابق والكرامة...
    ـ بعد الوجود التفاعلي المتمثل في علاقة التأثير المتبادل مع الغير. فالغير هو من يمنحني وعيا بوجودي بوصفي ذاتا، وهو من يضفي على ذلك الوجود طابعا إنسانيا. وهو ما سنَتَبَيَّنُه من خلال مفهوم الغير، بوصفه مفهوما يطرح مسألة التفاعل مع الآخر، ذلك الآخر الذي ينخرط في وعيي بوجودي بوصفي ذاتا، ويضفي انخراطه الطابع الإنساني على هذا الوجود.
    ـ البعد التاريخي، إذ لا يوجد الإنسان سوى بوصفه امتدادا لتاريخ يتجاوزه، والانتماء للجماعة هو انتماء لصيرورة يكون فيها الإنسان منتجا لوجود متعين في الزمان، كما يكون منتوجا لتلك الدينامية التي تتميز بمنطقها الخاص. وذلك ما سنستكشفه من خلال مفهوم التاريخ، بوصفه صيرورة تتجاوز الفرد و دينامية يشارك الشخص الإنساني في إنتاجها، عبر مختلف ضروب التفاعل التي ينخرط فيها بقدر ما يتحدد كنتاج لها.
 

مفهوم الشخص

    تقديم:
    يشير مفهوم الشخص إلى الذات الإنسانية بما هي ذات واعية ومفكرة من جهة، وذات حرة و مسؤولة من جهة أخرى. إذا كان الكثير من الفلاسفة قد ركزوا على جانب الفكر والوعي باعتبارهما يمثلان جوهر الشخص البشري، فإن هناك أبعاد أخرى تميز هذا الكائن؛ بيولوجية وسيكولوجية واجتماعية وغيرها. فللشخص صفات جسدية متغيرة، كما أن له حياة نفسية متقلبة، ثم إنه حيوان سياسي وأخلاقي، محكوم بروابط وعلاقات مع الغير.
أمام كل هذه المحددات نجد أن مفهوم الشخص يثير الكثير من الإشكالات، من أهمها ما يلي:
- ما الذي يتغير في الشخص؟ وما الذي يبقى ثابتا؟ أين تتمثل هوية الشخص؟ هل هي هوية واحدة أم متعددة؟
- ما الذي يميز الشخص ويمنحه قيمة وتميز عن باقي الحيوانات والأشياء؟ وما الذي يؤسس البعد القيمي- الأخلاقي للشخص؟
- بأي معنى يمكن النظر إلى الشخص كذات حرة و مسؤولة؟ ألا يمكن القول بأن حريته مشروطة بأوضاع اجتماعية؟

    І- الشخص والهوية: 
*إشكال المحور:  ما الذي يكون الهوية الشخصية؟ وعلى ماذا تتأسس هوية  الشخص؟

     1-  الموقف العقلاني/ ديكارت: الفكر كأساس لهوية الشخص.
    لقد استخدم ديكارت الشك المنهجي من أجل الوصول إلى الحقيقة؛ هكذا فقد شك في كل شيء لكنه مع ذلك لم يستطع أن يشك في أنه يشك، وما دام الشك نوع من التفكير فقد انتهى أنه يفكر. من هنا فقد تساءل قائلا: أي شيء أنا؟ وأجاب: أنا شيء مفكر. وهذا ما يجعل هوية الشخص عند أبي الفلسفة الحديثة تتحدد على مستوى الفكر؛ فالشخص هو ذات مفكرة وواعية. ويتجلى هذا الوعي في القدرة على الشك والفهم والتصور والنفي والإثبات والتخيل والإحساس…الخ. وتعتبر هذه الأفعال خصائص مكونة لهوية الشخص بحيث لا يمكن تصوره بدونها، فهي إذن ثابتة لدى الكائن البشري وتميزه عن باقي الكائنات.
وإذا كانت أفعال الأنا هاته مختلفة ومتنوعة، فإنها مع ذلك تصدر عن نفس الجوهر المفكر، والذي يبقى في هوية وتطابق مع نفسه في كل الظروف والأحوال، وبذلك فهو يمثل هوية الشخص وجوهره وما هو ثابت فيه.
وقد استبعد ديكارت الخصائص المرتبطة بالجسم باعتبارها خصائص عرضية وليست من طبيعة نفسه، واعتبر أنه يمكن أن يوجد حتى ولو افترضنا أنه لا بدن له. فالأنا على وجه التدقيق ذهن أو روح أو فكر أو عقل. هكذا فالفكر هو أساس هوية الشخص ووجوده، فأنا أفكر إذن أنا موجود، أنا موجود مادمت أفكر وإذا انقطعت عن التفكير انقطعت عن الوجود. 
        2- الموقف التجريبي/ لوك وهيوم: تحديد هوية الشخص انطلاقا من الإحساس والذاكرة.   
    الشخص عند جون لوك كائن واع ومفكر، يتأمل ذاته ويدرك أنها مطابقة لنفسها في كل لحظة تمارس فيها التفكير والتعقل. من هنا فهوية الشخص عنده لا تخرج عن إطار الفكر كما هو الحال عند ديكارت، إلا أنه يختلف عن هذا الأخير في أنه لا يمكن تصور أفكار فطرية بمعزل عن الحواس؛ ذلك أن العقل صفحة بيضاء والحواس هي التي تمده بالمعارف والأفكار.هكذا يربط  لوك بين الفكر والإحساس، وهذا الربط هو الذي جعله يستنتج أن الإحساس هو ما يكون الهوية الشخصية للإنسان. كما يربط من جهة أخرى بين الذاكرة وهوية الشخص؛ إذ كلما امتد الوعي في الذاكرة إلا واتسعت معه هوية الشخص وتقوت. وهذا يعني أن الوعي والذاكرة هما مكونان أساسيان لهوية الشخص. .
وإذا كان لوك قد اعتبر بأن الوعي يرافق دوما فكرنا، مما يجعل الوعي مكونا أساسيا من مكونات الهوية الشخصية ويجعل  كل واحد منا يطلق على نفسه اسم الأنا ويظل مطابقا لذاته باستمرار، فإنه لم يحسم ما إذا كانت الأفعال الصادرة عن الوعي ترتبط بجوهر واحد أم بعدة جواهر.                                                                                                   
    وسيأتي التجريبي دفيد هيوم ليختلف صراحة مع ديكارت حول هذه النقطة؛ فاعتبر خلافا لهذا الأخير بأنه لا وجود لجوهر واحد اسمه النفس هو الذي يكون هوية الشخص وتصدر عنه أفعال الوعي المختلفة، بل إن الوعي يتجزأ إلى مختلف العمليات التي تصدر عن إدراكاتنا الحسية، والتي تتعاقب في الزمان والمكان بكيفية مكثفة ومسترسلة لا تعرف التوقف بحيث تمنحنا انطباعا وهميا بأن لنا جوهرا ثابتا اسمه النفس أو الأنا، في حين أن الأمر لا يعدو أن يكون مجموعة متعددة ومتغيرة من الإحساسات الظاهرة أو الباطنة، والتي تكون هويتنا ووعينا، وبتوقف تلك الإدراكات الحسية في النوم أو الموت مثلا، فإنه يتوقف معها الوعي نهائيا ولا نستطيع في هذه الحالة الحديث عن النفس أو الأنا المفكر كجوهر ثابت ومكون لهوية الشخص كما زعم ديكارت.هكذا يجعل دفيد هيوم، كما هو الشأن بالنسبة لمواطنه جون لوك، الإدراكات الحسية أساسا لكل الأفكار التي  يحملها وعينا وذاكرتنا والتي يمكن أن تشكل ما يمكن أن نسميه بهويتنا الشخصية.
   
       3-  موقف شوبنهاور:  الإرادة كأساس لهوية الشخص .
    خلافا للفلسفات التي تحدد هوية الشخص انطلاقا من الوعي والذاكرة، يرى شوبنهاور أن هوية الشخص تتحدد بالإرادة، إرادة الحياة التي تظل ثابتة فينا حتى عندما ننسى ونتغير كلية.
    هكذا وبالرغم من التحولات التي يحملها الزمن إلى الإنسان، فإنه يبقى فيه شيء لا يتغير، وهو الذي يمثل نواة وجوده الذي لا يتأثر بالزمن. وهذا الشيء لا يتمثل في الشعور المرتبط بالذاكرة، لأن أحداث الماضي يعتريها النسيان، والذاكرة معرضة للتلف بسبب الشيخوخة أو المرض، بل يتمثل في الإرادة التي هي أساس هوية الشخص ونواة وجوده بحيث تظل ثابتة وفي هوية مع نفسها، وهي التي تمثل ذاتنا الحقيقية والمحركة لوعينا وذاتنا العارفة.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

مفهــوم الغيــــر - العلاقة مع الغير

  مفهــوم الغيــــر       III- العلاقة مع الغير :     تتعدد أوجه العلاقة بالغير وتتخذ أبعادا مختلفة بين الابن وال...