13 déc. 2014

مفهــوم الغيــــر - العلاقة مع الغير



 

مفهــوم الغيــــر



     III- العلاقة مع الغير:

    تتعدد أوجه العلاقة بالغير وتتخذ أبعادا مختلفة بين الابن والأب ، والأم ، والأخ ، عشيقين ، بين خصم ومنافسه ، بين المعلم والتلميذ  بين الضحية والجلاد ...هذه العلاقة لا تتوقف عن التغير وتأخذ أشكالا متنوعة إن لم تكن متناقضة، إنها التعبير الواضح عن طبيعة الوضع البشري؛ الذي اتخذ صيغا مختلفة مثال: (الجحيم هم الآخرون) سارتر، (إن أكبر عقاب لي هو أن أكون وحدي في الجنة) مالبرانش، (الصراع بين العبد والسيد) هيغل ، (نفي الآخر) ديكارت ، تجاذب الذوات (دولوز).. .
    يقيم الناس فيما بينهم أشكالا من العلاقات المختلفة ويستعملون الكثير من أدوات التواصل ويتصرفون حسب الوضع الذي يكونون عليه. ويكشف لنا هذا الوضع عن تعقد العلاقة التي تمتد إلى الأنانية المفرطة أو الإيثار المفرط. وتنجلي هذه العلاقة في شكل تمظهرات مختلفة : الحب / الكراهية، الصداقة / العداوة، التعصب / التسامح .. وهذا يحيلنا على صورتين للعلاقة مع الغير: فهو إما صديق أو غريب. ومن هنا نطرح:
الإشكال: يبدو أن هناك نموذجين للعلاقة بالغير: الصداقة والغرابة، فكيف ينبغي أن تتحدد علاقتنا بالغير؟

    1موقف إمانويل كانط: الصداقة حب واحترام.
    عرف أرسطو الصداقة باعتبارها فضيلة أخلاقية، كما أنها تلك الرابطة التي تجمع بين الناس داخل المدينة، والتي إن سادت على الوجه الأكمل لم نكن في حاجة إلى قوانين العدالة أصلا. كما يرى أرسطو أن الصداقة ضرورية في الحياة.ويحدد أرسطو ثلاثة أسس تنبني عليها الصداقة، المنفعة والمتعة والفضيلة الأخلاقية. هكذا نكون أمام ثلاثة أنواع من الصداقة، صداقة المنفعة وصداقة المتعة وصداقة الفضيلة. فالصداقتان الأولتان ترتكزان على المنفعة والمتعة، ولذلك فهما متغيرتان وزائلتان. بينما الصداقة الحقيقية هي صداقة الفضيلة التي تنبني على حب الخير لذاته أولا، وللأصدقاء ثانيا.
    وفي نفس السياق حاول أفلاطون أن يحدد أساس الصداقة؛ فذهب إلى أنها تقوم على نوع من الشعور بالنقص، وتعبر عن نزوع الأنا إلى الكمال من خلال حاجته الماسة إلى الغير. هكذا فالصداقة في نظره لا تكون بين الطيبين ولا بين الخبيثين، فلكي تكون هناك صداقة بين الأنا والغير لا بد أن تكون الذات في حالة من النقص النسبي الذي يجعلها تسعى إلى تحقيق الكمال مع من هو أفضل. ولو هيمن الشر على الذات، فإنها ستكون في حالة نقص مطلق لا تستطيع معه أن تسمو إلى الخير. ولو كانت الذات في حالة خير مطلق لعاشت نوعا من الاكتفاء الذاتي الذي يجعلها لا تحتاج إلى الصديق. فأساس الصداقة هو الرغبة في تحقيق سمو الذات وكمالها من خلال الغير.
    وفي إطار البحث عن أساس الصداقة كشكل من أشكال العلاقة مع الغير، يمكن أن نقدم تصور كانط الذي أسس العلاقة بين الأنا والغير على مبادئ أخلاقية وعقلية كونية. ويتجلى ذلك من خلال حديثه عن الصداقة باعتبارها علاقة تقوم على مشاعر الحب والاحترام المتبادلة بين شخصين. وغاية الصداقة، في صورتها المثلى، هي غاية أخلاقية طيبة، تتمثل في تحقيق الخير للصديقين معا. وقد اعتبر كانط الصداقة واجبا عقليا يجب على الإنسان السعي نحو تحقيقه، وإن كان يتعذر تحقيقها في صورتها المثلى على أرض الواقع. فالعلاقة مع الغير يجب أن تراعي نوعا من التوازن بين عناصر الواجب الأخلاقي؛ بين مشاعر الحب من جهة، ومشاعر الاحترام من جهة أخرى.

   2موقف أوغست كونت: الغيرية.
    يؤكد اوغست كونت أن الإنسانية تقوم على الغيرية وتجاوز ذاتيتها ونكرانها من اجل التضحية من أجل الغير، وبذلك فالعلاقة مع الغير ليست مجرد علاقة صراع ومواجهة ونفي وتنافر، بل قد تقوم كذلك على الاعتراف المتبادل والتواصل و الاحترام و الصداقة بل والتضحية من أجل الآخر، مما يجعل العلاقة مع الغير متعددة الأبعاد متنوعة ومختلفة وغنية ولا يمكن اختزالهما في شكل دون آخر لأن الإنسان ظاهرة متعددة الأبعاد.
    لكن علاقتي بالغير لا تكون دائما في إطار الصداقة، إذ أكون مجبرا أيضا على التعامل مع الغريب. فمن هو الغريب على وجه الدقة؟ وكيف ينبغي أن تكون علاقتي به؟


    3- جوليا كريستيفا:  الغريب يسكننا.
    ترى جوليا كريستيفا أنه عادة ما يتم النظر إلى الغريب باعتباره ذلك الدخيل/الأجنبي الذي يهدد أمن الجماعة، ويشكل مصدر قلق لها ومهددا لأمنها واستقرارها. ولذلك تتخذ الجماعة من هذا الغريب موقف الإقصاء والتهميش والنبذ والحقد، باعتباره عدوا يجب القضاء عليه أو على الأقل الحذر منه.
    لكن كريستيفا ترفض تحديد الغريب انطلاقا من هذا التصور الشائع، وتقدم بالمقابل تحديدا تعتبره أكثر عمقا وتعبيرا عن الغرابة الحقيقية. هكذا تعتبر أن الغريب يسكننا على نحو غريب؛ فهو إذن ليس خارجيا أجنبيا بل داخليا، يسكننا، إنه يوجد فينا. إن الغرابة بهذا المعنى الأخير تتجلى في جهل الإنسان بذاته وبأعماقه ومكونات هويته. كما تتجلى أيضا في أشكال التصدع والانحلال والنسف الذي يطال النظم الثقافية والروابط الاجتماعية والقيم الأخلاقية للجماعة البشرية، مما يجعل الفرد يشعر بالغرابة داخل بلده وبين أهله.
    هكذا، إذا كان الغريب، حسب كريستيفا، قابع فينا ويسكننا من الداخل، وجب أن لا تكون علاقتنا به مبنية على الكراهية والعداوة والإقصاء والعنف، بل يجب أن تكون مبنية على الحب والتسامح والسلم والاعتراف المتبادل. إن الغريب يسكننا على نحو غريب.



    خلاصة:


إن ما يستفاد من المقاربة الفلسفية لمفهوم الغير، هو ضرورة القبول بالغير والاعتراف له بغيريته ومغايرته وحقه في الاختلاف، فالغير لا يعرف بشكل نهائي ولا يمكن اختزاله إلى الأنا. وهذا ما تعبر عنه أطروحة «الغيرية الجذرية» كما نجدها لدى غيوم وبودريار اللذان يريان أن الغير يضع في أساس الأنا مبدأ نقص وعدم كفاية، إذ يشعر بحاجته إلى الغير وإلى ضرورة التواصل معه. وهذا ما يلح عليه كلود ليفي ستراوس، من منظور أنثروبولوجي، حيث أكد على أن التطور الذي عرفته البشرية لم يكن ليحصل إلا في إطار التبادل الثقافي بين الحضارات.

    لذلك فأكبر خطر يهدد حضارة من الحضارات بالانقراض أو على الأقل التخلف، هو أن توجد معزولة عن الحضارات الأخرى. وإن إن الموقف الذي يجب اتخاذه من الغير ليس هو موقف الإقصاء، لأن هذا الغير هو إنسان قبل كل شيء وهو عنصر ثقافي، لهذا لابد من فسح المجال للحوار والتسامح والاحترام والحق في الاختلاف حتى نضمن حدا أدنى من التعايش ضمن الحفاظ على استقلالية الأنا والغير .

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

مفهــوم الغيــــر - العلاقة مع الغير

  مفهــوم الغيــــر       III- العلاقة مع الغير :     تتعدد أوجه العلاقة بالغير وتتخذ أبعادا مختلفة بين الابن وال...