13 déc. 2014

مفهــوم الغيــــر- وجود الغير



مفهــوم الغيــــر


جاء في معجم روبير بأن « الغير هم الآخرون من الناس بوجه عام ». كما نجد تحديدا في معجم لالاند الفلسفي جاء فيه ما يلي: « الغير هو آخر الأنا، منظورا إليه ليس بوصفه موضوعا، بل بوصفه أنا آخر ». ويقول جان بول سارتر: « الغير هو الآخر، الأنا الذي ليس أنا ».


       І- وجود الغير: 
الإشكال: هل وجود الغير ضروري لوجود الأنا ووعيه بذاته أم أنه مجرد وجود جائز ومحتمل؟

    1-   موقف ديكارت: وجود الغير غير ضروري لوجود الأنا ووعيه بذاته.
    لقد اعتمد ديكارت على الشك من أجل بلوغ الحقيقة؛ وهكذا فقد شك في كل شيء إلا في حقيقة واحدة، بديهية ويقينية، وهي أنه يشك‘ أي يفكر، وبالتالي فهو يقينا يوجد كذات أو كجوهر مفكر. إن وجود الأنا كفكر وكوعي هو وجود يقيني لا يطاله الشك مادام أنه موضوع لإدراك حدسي مباشر، أما وجود الغير كذات مفكرة وواعية فلا يتم إثباته إلا عن طريق الافتراض أنه شبيه للأنا، وبالتالي فوجود الغير في فلسفة ديكارت يتم التوصل إليه عن طريق استدلال قياسي، وكل ما يحصل عن طريق الاستدلال فهو قابل للشك.
    إن الوعي عند ديكارت هو حضور الذات إزاء نفسها، لذلك يصعب إدراك الغير كوعي آخر من طرف وعيي أنا. وهذا ما جعل ديكارت يسقط فيما يمكن تسميته بعزلة الذات مادام أنه متأكد من ذاته وحدها، في حين يبقى وجود الغير مجرد وجود افتراضي، جائز ومحتمل.

    2-   موقف هيجل: إثبات وجود الأنا لا يكون إلا من خلال الصراع مع الغير.
    ضد الموقف الديكارتي شيد هيجل فلسفة للوعي يحتل فيها مفهوم الغير موقعا مركزيا. فكل شيء بالنسبة لهيجل يحمل نقيضه في ذاته كشرط لتحقق وجوده واستمراريته. هكذا فوجود الأنا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال وجود نقيضه أي الأنا الآخر أو الغير. فلا يمكن للوعي أن يعرف نفسه إلا من خلال انفتاحه على كل ماهو آخر بالنسبة إليه؛ أي أن الوعي يبحث عن وساطة بينه وبين معرفته لنفسه، وهذا ما ينعته هيجل بمفهوم التوسط (La médiation) .
وباعتبار الموجودات الطبيعية مجردة من الوعي، فهي موضوعات لإشباع حاجات الوعي الطبيعية، لذلك فهي تغرقه في الحياة العضوية وتجعله لا يتجاوز درجة الإحساس المباشر بالذات، ولهذا أيضا فهي لا تصلح كوساطة تمكن الوعي من تحقيق معرفة كاملة بنفسه.
    إن الوعي الآخر (الغير) هو الوحيد القادر على القيام بدور التوسط بين الأنا ومعرفته بذاته؛ ذلك أن الأنا يسعى إلى الاعتراف به من طرف الآخر. غير أن هذا الاعتراف يتم من خلال عملية الصراع التي تقوم بين الأنا والغير، والتي تنتهي بإخضاع أحد الوعيين للآخر وإجباره على الاعتراف له بوجوده. وبذلك تنشأ العلاقة الإنسانية الأولى، علاقة السيد بالعبد.
وهكذا فليس للأنا وجودا حقيقيا إلا من خلال علاقته بالأنا الآخر (الغير) وليس قبلها. فوجود الغير شرط ضروري لوجود الأنا؛ مادام أن كلا من السيد والعبد يتوقف وجود أحدهما على وجود الآخر.
    إن العزلة الوجودية أفضت بديكارت إلى إقصاء وجود الغير كذات ؛ في حين الصراع القائم بين الذوات هو دليل على وجود الغير . أي أن الوعي بالذات يقتضي الوعي بوجود الغير.

   3-   موقف هايدغر: الوجود مع الآخرين تذويب لوجود الأنا المفرد
    يحلل هايدغر معنى الوجود مع الآخرين، فيخلص إلى أن الذات تفقد تميزها وهويتها كاختلاف عندما تدخل في حياة مشتركة مع الغير. هكذا يتميز الوجود مع الغير بخاصية التباعد الذي قد يعني غياب تفاهم وتعاطف بين الأنا والغير. فالأنا في علاقته مع الغير يوجد تحت قبضته وسيطرته، بحيث يقوم هذا الأخير بإفراغ الأنا من إمكانياته ومميزاته الفردية ويجعله تابعا له. إن الغير يمارس على "الموجود هنا" هيمنة خفية، خصوصا وأن مفهوم الغير غير محدد بدقة بحيث أن الذات هي الأخرى جزء منه، وبانتمائها له تزيد من هيمنته وسلطته عليها. ويتجلى هذا الانتماء في وجود روابط عرفية وقانونية مشتركة بين الأنا والغير، وهي التي يستثمرها هذا الأخير من أجل بسط هيمنته على الذات وإحكام قبضته عليها. ويؤكد هايدغر على خاصية التشابه أو اللاتمييز التي توجد بين الأنا والغير، بحيث تذوب الذات في الغير وتفقد تميزها وتفردها الخاص. هكذا يعمل الآخرون على خلق ذوات متشابهة، ويساهمون في اختفاء هوية الفرد وذوبانه في حياة الجماعة. يتساءل هايدغر: كيف يمكن أن يتساكن coexiste نمطان متعارضان من الوجود: الوجود هنا والوجود مع الغير؟ ويجيب بأن التباعد خاصية مميزة للوجود- مع- الغير أي لوجودنا المشترك مع الآخرين، رغم التقارب المكاني ظاهريا، فالموجود- هنا (الوجود الإنساني كوجود زمني واع) وجود فردي خاص، لا أكون أنا هو أنا مطابقا لذاتي إلا عندما أؤكد فرديتي أو أكون في عزلتي.                      
    فالموجود-هنا لا يكون مطابقا لذاته، و الغير ليس أحدا متعينا، ليس هو عمرو أو زيد ، ذاك أو هذا، إنه الآخرون أو كما يقول الفرنسيون on، إنني لست جزءا من هؤلاء الآخرين، بمعنى أنني في مواجهتهم وتحت ضغط قوتهم العددية ولكني أيضا ومن خلال دخولي في علاقات معهم و تواجدي بينهم أصبح جزءا من الآخرين فأساهم في زيادة قوتهم العددية. ونستنتج أن التهديد الذي يتحدث عنه هايدغر يتمثل في الطابع اللاشخصي للغير. 

     4-   موقف سارتر: وجود الغير كأنا منفصل عن أناي ضروري للوعي بالذات.
    يستبعد جون بول سارتر الأطروحة الديكارتية التي تعتبر أن الكوجيطو يسمح بإدراك الذات و الوعي بها في استقلال تام عن الغير، وأن وجود الغير غير ضروري و احتمالي. ويعتبر أن وعي الذات يتضمن انكشافا للغير، وأن الغير هو الوسيط الضروري بيني وبين ذاتي. فهل يمكن الوعي بحقيقة وجود الذات في استقلال عن وجود الغير؟ وهل وجود الغير هو ضروري للوعي بوجود الذات أم أنه احتمالي؟.
    قدم جون بول سارتر مثال الخجل لتأكيد أطروحته التي مفادها أنني أتأكد من ما أنا عليه من خلال حكم الآخرين. وأنني أجهل ذاتي في غياب حكم الآخرين. فحين أكون مستغرقا في فعلي، فأنا لا أعي فعلي، بسبب غياب حكم قيمة، (لا أحكم عليه و لا أدينه) بل أحياه فقط،  فهذا السلوك هو محايد. فالوعي بالنسبة لسارتر ليس معطي أصلي وأولي في الذات ، بل هو بداية الوعي بالعالم. إن نظرة الآخر تجعلني أعي ما تحمله حركتي من سوقية فأشعر بالخجل وأعترف بصحة حكمه لأنني أشعر بالخجل.  فظهور الأخر هو الذي سيؤدي إلى إحداث هذا الانقلاب في الوعي بوجود الذات، و يعني أن انكشاف حقيقة الذات تتم في حضور الغير .
    إن تجربة اللقاء بالغير تقوم في عالم من الصراع: ذلك أنني أصدر حكما على نفسي كما أصدره على موضوع ما.لأنني أظهر أمام الغير كموضوع. ويمكنني أن أحس بالضيق والغضب إزاء الصورة التي كشفني بها الغير أمام ذاتي. بل أنا بدوري نظرتي تحول الغير إلى موضوع مثلما تحولني نظرته إلى موضوع. فنظرة بعضنا البعض تهدد حريتنا. فأن أكون تحت نظرة الأغيار جحيم لا يمكن تحمله. و هو ما يفسر قولة سارتر " الجحيم هم الآخرون" في مسرحية (Huis-clos )، فهذه النظرة التي تحولني إلى موضوع  لا يمكن تحملها. فأنا أتوجس من حكم الغير لأنه يحولني إلى موضوع ، كما أنني أحوله أنا بدوري إلى موضوع، فنحن إذن نتوجس من بعضنا،  حين يدرك أبطال المسرحية أن  أقسى العقوبات هي تلك النظرة الدائمة الحضور للأغيار، والتي لا يمكن أن نتحرر منها.    
    إن اكتشاف حقيقة ذاتي مرتبط بحضور الغير فالمعنى الحقيقي لأفعالي يرتبط بحكم الغير.إن حقيقة الخجل هو الخجل من ذاتي أمام الغير، فأنا في حاجة إلى الغير لاكتشاف حقيقة ذاتي. إن الغير بالنسبة لسارتر ليس سوى موضوعا لاهتماماتي والعكس صحيح، إنه هو الآخر ذلك الأنا الذي ليس أنا أي مجرد نظام مترابط من التجارب المستقلة عني، لكن وجود الغير ضرورة لأنه وبواسطته أدرك ذاتي، فهو يوجد كموضوع لإدراكي، وخلاصة القول: إن التجربة الوجودية التي يعيشها الأنا والغير تجعل منهم موضوعا لبعضهم البعض. يعتبر سارتر الوجود الإنساني سابق على الماهية وأن الحرية شرط هذا الوجود، فالأنا في التصور الوجودي هو أنا في مواجهة نظرة الغير كوجود لا  تحكمها علاقة نفي كما هو الشأن مع ديكارت ولا علاقة عبودية كما تصور ذلك هيغل، بل تتميز بالاعتراف المتبادل يغيب فيها عنصر الإلغاء لأن شرط وجود الأنا والغير الحرية، ولهذا اعتبر سارتر الوجود الإنساني مشروع .

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

مفهــوم الغيــــر - العلاقة مع الغير

  مفهــوم الغيــــر       III- العلاقة مع الغير :     تتعدد أوجه العلاقة بالغير وتتخذ أبعادا مختلفة بين الابن وال...