13 déc. 2014

مفهــوم الغيــــر - العلاقة مع الغير



 

مفهــوم الغيــــر



     III- العلاقة مع الغير:

    تتعدد أوجه العلاقة بالغير وتتخذ أبعادا مختلفة بين الابن والأب ، والأم ، والأخ ، عشيقين ، بين خصم ومنافسه ، بين المعلم والتلميذ  بين الضحية والجلاد ...هذه العلاقة لا تتوقف عن التغير وتأخذ أشكالا متنوعة إن لم تكن متناقضة، إنها التعبير الواضح عن طبيعة الوضع البشري؛ الذي اتخذ صيغا مختلفة مثال: (الجحيم هم الآخرون) سارتر، (إن أكبر عقاب لي هو أن أكون وحدي في الجنة) مالبرانش، (الصراع بين العبد والسيد) هيغل ، (نفي الآخر) ديكارت ، تجاذب الذوات (دولوز).. .
    يقيم الناس فيما بينهم أشكالا من العلاقات المختلفة ويستعملون الكثير من أدوات التواصل ويتصرفون حسب الوضع الذي يكونون عليه. ويكشف لنا هذا الوضع عن تعقد العلاقة التي تمتد إلى الأنانية المفرطة أو الإيثار المفرط. وتنجلي هذه العلاقة في شكل تمظهرات مختلفة : الحب / الكراهية، الصداقة / العداوة، التعصب / التسامح .. وهذا يحيلنا على صورتين للعلاقة مع الغير: فهو إما صديق أو غريب. ومن هنا نطرح:
الإشكال: يبدو أن هناك نموذجين للعلاقة بالغير: الصداقة والغرابة، فكيف ينبغي أن تتحدد علاقتنا بالغير؟

    1موقف إمانويل كانط: الصداقة حب واحترام.
    عرف أرسطو الصداقة باعتبارها فضيلة أخلاقية، كما أنها تلك الرابطة التي تجمع بين الناس داخل المدينة، والتي إن سادت على الوجه الأكمل لم نكن في حاجة إلى قوانين العدالة أصلا. كما يرى أرسطو أن الصداقة ضرورية في الحياة.ويحدد أرسطو ثلاثة أسس تنبني عليها الصداقة، المنفعة والمتعة والفضيلة الأخلاقية. هكذا نكون أمام ثلاثة أنواع من الصداقة، صداقة المنفعة وصداقة المتعة وصداقة الفضيلة. فالصداقتان الأولتان ترتكزان على المنفعة والمتعة، ولذلك فهما متغيرتان وزائلتان. بينما الصداقة الحقيقية هي صداقة الفضيلة التي تنبني على حب الخير لذاته أولا، وللأصدقاء ثانيا.
    وفي نفس السياق حاول أفلاطون أن يحدد أساس الصداقة؛ فذهب إلى أنها تقوم على نوع من الشعور بالنقص، وتعبر عن نزوع الأنا إلى الكمال من خلال حاجته الماسة إلى الغير. هكذا فالصداقة في نظره لا تكون بين الطيبين ولا بين الخبيثين، فلكي تكون هناك صداقة بين الأنا والغير لا بد أن تكون الذات في حالة من النقص النسبي الذي يجعلها تسعى إلى تحقيق الكمال مع من هو أفضل. ولو هيمن الشر على الذات، فإنها ستكون في حالة نقص مطلق لا تستطيع معه أن تسمو إلى الخير. ولو كانت الذات في حالة خير مطلق لعاشت نوعا من الاكتفاء الذاتي الذي يجعلها لا تحتاج إلى الصديق. فأساس الصداقة هو الرغبة في تحقيق سمو الذات وكمالها من خلال الغير.
    وفي إطار البحث عن أساس الصداقة كشكل من أشكال العلاقة مع الغير، يمكن أن نقدم تصور كانط الذي أسس العلاقة بين الأنا والغير على مبادئ أخلاقية وعقلية كونية. ويتجلى ذلك من خلال حديثه عن الصداقة باعتبارها علاقة تقوم على مشاعر الحب والاحترام المتبادلة بين شخصين. وغاية الصداقة، في صورتها المثلى، هي غاية أخلاقية طيبة، تتمثل في تحقيق الخير للصديقين معا. وقد اعتبر كانط الصداقة واجبا عقليا يجب على الإنسان السعي نحو تحقيقه، وإن كان يتعذر تحقيقها في صورتها المثلى على أرض الواقع. فالعلاقة مع الغير يجب أن تراعي نوعا من التوازن بين عناصر الواجب الأخلاقي؛ بين مشاعر الحب من جهة، ومشاعر الاحترام من جهة أخرى.

   2موقف أوغست كونت: الغيرية.
    يؤكد اوغست كونت أن الإنسانية تقوم على الغيرية وتجاوز ذاتيتها ونكرانها من اجل التضحية من أجل الغير، وبذلك فالعلاقة مع الغير ليست مجرد علاقة صراع ومواجهة ونفي وتنافر، بل قد تقوم كذلك على الاعتراف المتبادل والتواصل و الاحترام و الصداقة بل والتضحية من أجل الآخر، مما يجعل العلاقة مع الغير متعددة الأبعاد متنوعة ومختلفة وغنية ولا يمكن اختزالهما في شكل دون آخر لأن الإنسان ظاهرة متعددة الأبعاد.
    لكن علاقتي بالغير لا تكون دائما في إطار الصداقة، إذ أكون مجبرا أيضا على التعامل مع الغريب. فمن هو الغريب على وجه الدقة؟ وكيف ينبغي أن تكون علاقتي به؟


    3- جوليا كريستيفا:  الغريب يسكننا.
    ترى جوليا كريستيفا أنه عادة ما يتم النظر إلى الغريب باعتباره ذلك الدخيل/الأجنبي الذي يهدد أمن الجماعة، ويشكل مصدر قلق لها ومهددا لأمنها واستقرارها. ولذلك تتخذ الجماعة من هذا الغريب موقف الإقصاء والتهميش والنبذ والحقد، باعتباره عدوا يجب القضاء عليه أو على الأقل الحذر منه.
    لكن كريستيفا ترفض تحديد الغريب انطلاقا من هذا التصور الشائع، وتقدم بالمقابل تحديدا تعتبره أكثر عمقا وتعبيرا عن الغرابة الحقيقية. هكذا تعتبر أن الغريب يسكننا على نحو غريب؛ فهو إذن ليس خارجيا أجنبيا بل داخليا، يسكننا، إنه يوجد فينا. إن الغرابة بهذا المعنى الأخير تتجلى في جهل الإنسان بذاته وبأعماقه ومكونات هويته. كما تتجلى أيضا في أشكال التصدع والانحلال والنسف الذي يطال النظم الثقافية والروابط الاجتماعية والقيم الأخلاقية للجماعة البشرية، مما يجعل الفرد يشعر بالغرابة داخل بلده وبين أهله.
    هكذا، إذا كان الغريب، حسب كريستيفا، قابع فينا ويسكننا من الداخل، وجب أن لا تكون علاقتنا به مبنية على الكراهية والعداوة والإقصاء والعنف، بل يجب أن تكون مبنية على الحب والتسامح والسلم والاعتراف المتبادل. إن الغريب يسكننا على نحو غريب.



    خلاصة:


إن ما يستفاد من المقاربة الفلسفية لمفهوم الغير، هو ضرورة القبول بالغير والاعتراف له بغيريته ومغايرته وحقه في الاختلاف، فالغير لا يعرف بشكل نهائي ولا يمكن اختزاله إلى الأنا. وهذا ما تعبر عنه أطروحة «الغيرية الجذرية» كما نجدها لدى غيوم وبودريار اللذان يريان أن الغير يضع في أساس الأنا مبدأ نقص وعدم كفاية، إذ يشعر بحاجته إلى الغير وإلى ضرورة التواصل معه. وهذا ما يلح عليه كلود ليفي ستراوس، من منظور أنثروبولوجي، حيث أكد على أن التطور الذي عرفته البشرية لم يكن ليحصل إلا في إطار التبادل الثقافي بين الحضارات.

    لذلك فأكبر خطر يهدد حضارة من الحضارات بالانقراض أو على الأقل التخلف، هو أن توجد معزولة عن الحضارات الأخرى. وإن إن الموقف الذي يجب اتخاذه من الغير ليس هو موقف الإقصاء، لأن هذا الغير هو إنسان قبل كل شيء وهو عنصر ثقافي، لهذا لابد من فسح المجال للحوار والتسامح والاحترام والحق في الاختلاف حتى نضمن حدا أدنى من التعايش ضمن الحفاظ على استقلالية الأنا والغير .

مفهــوم الغيــــر - معرفة الغير

 مفهــوم الغيــــر 



    - معرفة الغير: 
الإشكال: هل معرفة الغير كأنا آخر ممكنة؟ وكيف يمكن للأنا أن يعرف الغير وينفذ إلى أعماقه ؟

   1-   موقف سارتر: معرفة الغير غير ممكنة دون تشييئه وتجريده من مقوماته الإنسانية.
    هل من الممكن تحويل الغير إلى موضوع للمعرفة ؟ بالنسبة لسارتر، إن أي محاولة لإخضاع الغير لنشاط التفكير تعني تجريده من الذات والوعي والحرية أي تجميده. وهنا تبدأ الإشكالية، لأنه يفقد خصوصيته ومقوماته كوعي وكحركة وكإرادة، وبالتالي يستحيل معها التواصل لأن الأنا قام بتشييء الغير وجمد فاعليته .
    يقوم سارتر بالفصل بين الأنا والغير ويحدده في الصراع القائم أولا بين الجسم والذات، وثانيا بين أنا وأنا أخرى، فسارتر يدرك الأنا الأخرى إدراكا إمبريقيا (حسيا) إنه إدراك للجسم، أي أن إدراك الغير يتم عبر الجسم، وبهذا الشكل تنفصل الذوات عن بعضها البعض ولا تؤثر في كينونتها على بعضها البعض، أي أن وجود الواحدة لا يتوقف على وجود الأخرى. يقول سارتر، إنه لما كان لا يمكن للغير أن يؤثر في كينونتي بكينونته، فان الكيفية الوحيدة التي يمكن أن ينكشف لي بها هي أن يتجلى لمعرفتي كموضوع . أي أن الأنا هو الذي يكون صورة ذهنية للغير ضمن حقل التجربة. وضمن هذا الحقل تنشأ العلاقة بين الأنا والغير وبمجرد ما يدخل حقل نظرتي حتى أجمده وأحوله إلى شيء ، ونفس الشيء نظرة الآخر تقيدني وتحد من حريتي وتشل تلقائيتي ، وتصبح معرفة الغير مجرد انطباع لا أقل ولا أكثر. إن سارتر اهتم بمعرفة الغير من موقع العقل القائم على مبدإ الحكم والاستدلال، لهذا يقول إني أرى و أقيم حسب ما أعتقد بأن الآخرين يرونني ويحكمون به علي، وهنا اشعر بخيبة الأمل؛ ويزداد الجحيم كلما كانت علاقتي بالآخرين فاسدة وملتوية فالجحيم هم الآخرون.
    إذن معرفة الغير معناها تحويله إلى مجرد موضوع من موضوعات العالم، ولا يمكن أن تتحقق إلا بتشييئه وتجريده من ذاتيته. إن هذه العلاقة المعرفية بين ومع الغير يطغى عليها الصراع والتشييء المتبادل وعدم القدرة على التواصل، مما يدفع كل ذات إلى الانطواء على نفسها والبقاء محتجبة وراء فرديتها الخاصة ما دام " الآخرون جحيم". فهل العلاقة المعرفية مع الغير هي العلاقة الوحيدة الممكنة للتواصل مع الغير؟ أم بالإمكان بناء علاقة مغايرة؟

    2-   موقف ميرلوبونتي: معرفة الغير ممكنة من خلال التواصل.
    يرى ميرلوبنتى بأن نظرة الغير لا تحولني إلى موضوع ، كما لا تحوله نظرتي إلى موضوع . لأن الغير عكس ما تصوره سارتر انه ذاتا تنفعل لها سلوك  Comportement  فالغير حالة خاصة لها حياتها يمكن من خلال الصداقة أن أشاركه مثلا الحزن. فالصورة التي أعطاها سارتر للغير باعتباره جحيما تزول بمجرد ما ينطق هذا الغير بكلمة، أي بمجرد ما تدخل الذات في تواصل مع الغير تتحطم فكرة التعالي عن الأنا الآخر. لكن هذا الغير ليس مجرد سلوك أو تصرفات يكفي أن نتواصل معه لمعرفته، لأن هناك باطنا نفسيا خاصا بها لا يمكن النفاذ إليه ، مثلا لا أستطيع أن أشارك الغير أحزانه مهما بذلت من مجهود كل ما أقوم به هو التعبير عن شعوري بالتأثر، فالحياة النفسية للغير حياة خاصة تبدو مستحيلة عن الأنا، وهذا ما ستعمل على إنجازه مدرسة التحليل النفسي مع فرويد، فالغير أحيانا يكون وسيطا ضروريا لبلوغ أعماق اللاشعور مثال المحلل النفسي .
    وفي نفس السياق نجد موريس ميرلوبونتي يعتبر معرفة الغير ممكنة من خلال التواصل معه والاعتراف به والحفاظ على خصوصيته كغير مختلف مع احتضانه و التعايش معه من خلال المشاركة الوجدانية، مما تتيح للأنا قياس ما يظهر على الغير من سلوكات أو أقوال على الذات و بالتالي الوصول إلى معرفة يقينية بالغير. إن الغير ذات تتجلى أولا كجسد، لكن الجسد ليس مجرد كتلة بيولوجية كما نظر إليه سارتر وإنما ككيان يحس ويبصر ويسمع ويدرك وكأداة إيحاء وتعبير واتصال وتواصل.    إن اللغة كإمكانية للخروج من الذات والاتجاه نحو الآخر ستلعب الدور الرئيسي في هذا المستوى. يقول ميرلوبونتي: « داخل تجربة الحوار تتكون بين الأنا والآخر أرضية مشتركة ويكون تفكيري وتفكيره نسيجا واحدا»، إذ لا يوجد الغير وجودا معزولا عن الذات التي تدركه وإنما وجودا مرادفا للمعية ( يوجد معه )، وبالتالي فإن معرفته لا تتم كموضوع وإنما كذات أخرى تقتضي التعاطف والتفهم والإحساس المتبادل والاعتراف المتبادل. وخلاصة القول معرفة الغير ممكنة من خلال التواصل والحوار.

    3-   موقف هوسرل: إمكانية التوصل إلى معرفة الحياة الداخلية للغير انطلاقا من تجاربنا الشخصية في الحياة.
    يرى هوسرل أن معرفة الغير لا تمر عبر وسائط البرهان العقلي كما يعتقد ديكارت، بل تنطلق من إدراك الجسد؛ ذلك لأن الغير يقدم نفسه كجسد ويتجلى من خلاله؛ فعندما أرى جسد الغير أفهم تعبيرات ملامحه في ضوء تجربتي مع جسدي الذي هو المحل الذي تجري فيه وقائع حياتي الشعورية، ويحصل لي اليقين على الفور بأن الجسد الماثل أمامي ينطوي في أحشائه على حياة شعورية داخلية. فإن رأيت احمرارا على وجنتيه أدركت على الفور أنه يعاني من الشعور بالخجل، لأنني مررت بهذه التجربة الشعورية في السابق وكان لها نفس الأثر على وجهي باديا للعيان. لقد أدركت ذلك على الفور عن طريق ما يسمى بالاستدلال بالمماثلة. يشتغل هذا النوع من الاستدلال على النحو التالي:
1.        أنطلق من نفسي، فألاحظ وجود علاقة بين جسدي وبين تجاربي الشعورية وحالات الوعي التي أمر بها؛
2.        ألاحظ وجود تشابه بين جسمي وجسم الغير؛
3.        أستنتج وجود حياة شعورية ووعي في جسد الغير، ووجود علاقة بين جسده ووعيه.
    فبواسطة هذا الاستدلال يمكنني أن أستنتج من قسمات وجه الغير وسماته الفيزيولوجية حالاته النفسية أو الشعورية بشكل مباشر، لأن أسلوب الاستدلال المعتمد يقوم المقارنة التلقائية غير المفكر فيها (=لا تستخدم العمليات العقلية المجرد) بين أحوال جسدي وأحوال جسد الغير. والدليل على أن هذا النوع من الاستدلال لا يعتمد على العمليات العقلية المجردة هو أن الطفل الصغير يمتلك القدرة على إدراك التجارب الشعورية للآخرين بشكل تلقائي وفقا لطريقة الاستدلال بالمماثلة. وما يأخذ على هذا المنهج هو أنه جعل من الأنا المرجع الذي تقاس عليه أحوال الغير، ويكون من السهل أن يسقط الفرد حالاته الشعورية على الغير. هذا بالإضافة إلى أن الغير كما يتبدى في ضوء هذا المنهج هو الغير كما أتصوره أنا وليس الغير كما يتصور نفسه، فله عندي دلالة خاصة قد تختلف عن الدلالة التي يضفيها هو على وجوده.
    ولتجاوز هذه الصعوبة اقترح سارتر منهجا آخر يقوم على تصور مختلف لحقيقة الغير بوصفه أنا آخر. إن حقيقة الغير، في نظره، ليست من جملة الحقائق الباطنية المستغلقة على الفهم والملاحظة، بل هي قضية أحوال لها تمظهرات شتى عبر سيرورة الحياة، تتجلى من خلال سلوكاته، وكيفية تنظيم مجالات حياته وهيكلة محيطه وبشكل يجعله يحمل بصمات تجاربه الشعورية كالخوف والقلق وما إلى ذلك، بحيث يمكن القول إن التجارب الشعورية للغير تلون عالمه وسلوكاته وتصرفاتها.
    معرفة الغير إذن ممكنة من وجهة نظر الفيلسوف إدموند هوسرل، فالغير يمكن التعرف عليه لا بوصفه موضوعا يشبه أشياء الطبيعة و لا بوصفه ذاتا تشبهني لأن هذا الإدراك لا يتعدى كل ذات مفردة، على اعتبار أن كل أنا يشكل ظاهرة للعالم، بل بوصفه ذاتا تشبهني و تختلف عني في نفس الوقت، ووسيلة التعارف بين الأنا و الغير تكمن في مجال عالم التجارب أو الخبرات المشتركة أو ما يسميه هوسرل بعالم البينذاتية الذي يرتكز على التوافق الباطني أو التوحد الحدسي كآلية للتعارف.

    4
موقف بيرجي: معرفة الغير غير ممكنة، لأن تجربته هي تجربة أنا منعزلة في العالم و غير قابلة لأن تدرك من طرف الغير.
    على عكس ما ذهب إليه هوسرل و مرلونبونتي من إيجابية في الإجابة على إشكال هل معرفة الغير ممكنة؟ نجد الفيلسوف والسلوكي الفرنسي غاستون بيرجي يعتبر أن معرفة الغير غير ممكنة، لأن تجربته هي تجربة أنا منعزلة في العالم و غير قابلة لأن تدرك من طرف الغير، فبين الأنا و الغير جدار سميك و سياج مغلق لا يمكن تجاوزه،  فمعرفة الغير من خلال الأنا شيء مستحيل لأن لكل منهما عالمه الخاص. و في الإطار نفسه، انطلق مالبرانش من مسلمة أن الحقيقة أمر نسبي و أن التماثل و التشابه بين إحساسات الأنا و إحساسات الغير غير ممكن، الشيء الذي ينفي فرصة التعرف على الغير.
فهل يمكن و الحال هاته أن نعلن استحالة معرفة الغير و أن نجعل من الذوات جزرا و قلاعا حصينة ومغلقة؟
    يرفض ماكس شيلر القول باستحالة معرفة الغير، و يرى أن مثل هذا التوجه الفلسفي يتأسس على منطلقات ميتافيزيقية واهية، وهي تقسيم الوجود الإنساني إلى ثنائية ( نفس/ جسد، ظاهر/ باطن) و الحقيقة أن الغير كلية غير قابلة لأن تجزأ ولا يحيل فيه ظاهر مادي على باطن نفسي، أو وجود عميق مستحيل المنال، بل إن حقيقة الغير تتجسد فيه كما يظهر للأنا. إن حركات التعبير الجسدية لديه حاملة لدلالتها مباشرة كما تظهر.

مفهــوم الغيــــر- وجود الغير



مفهــوم الغيــــر


جاء في معجم روبير بأن « الغير هم الآخرون من الناس بوجه عام ». كما نجد تحديدا في معجم لالاند الفلسفي جاء فيه ما يلي: « الغير هو آخر الأنا، منظورا إليه ليس بوصفه موضوعا، بل بوصفه أنا آخر ». ويقول جان بول سارتر: « الغير هو الآخر، الأنا الذي ليس أنا ».


       І- وجود الغير: 
الإشكال: هل وجود الغير ضروري لوجود الأنا ووعيه بذاته أم أنه مجرد وجود جائز ومحتمل؟

    1-   موقف ديكارت: وجود الغير غير ضروري لوجود الأنا ووعيه بذاته.
    لقد اعتمد ديكارت على الشك من أجل بلوغ الحقيقة؛ وهكذا فقد شك في كل شيء إلا في حقيقة واحدة، بديهية ويقينية، وهي أنه يشك‘ أي يفكر، وبالتالي فهو يقينا يوجد كذات أو كجوهر مفكر. إن وجود الأنا كفكر وكوعي هو وجود يقيني لا يطاله الشك مادام أنه موضوع لإدراك حدسي مباشر، أما وجود الغير كذات مفكرة وواعية فلا يتم إثباته إلا عن طريق الافتراض أنه شبيه للأنا، وبالتالي فوجود الغير في فلسفة ديكارت يتم التوصل إليه عن طريق استدلال قياسي، وكل ما يحصل عن طريق الاستدلال فهو قابل للشك.
    إن الوعي عند ديكارت هو حضور الذات إزاء نفسها، لذلك يصعب إدراك الغير كوعي آخر من طرف وعيي أنا. وهذا ما جعل ديكارت يسقط فيما يمكن تسميته بعزلة الذات مادام أنه متأكد من ذاته وحدها، في حين يبقى وجود الغير مجرد وجود افتراضي، جائز ومحتمل.

    2-   موقف هيجل: إثبات وجود الأنا لا يكون إلا من خلال الصراع مع الغير.
    ضد الموقف الديكارتي شيد هيجل فلسفة للوعي يحتل فيها مفهوم الغير موقعا مركزيا. فكل شيء بالنسبة لهيجل يحمل نقيضه في ذاته كشرط لتحقق وجوده واستمراريته. هكذا فوجود الأنا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال وجود نقيضه أي الأنا الآخر أو الغير. فلا يمكن للوعي أن يعرف نفسه إلا من خلال انفتاحه على كل ماهو آخر بالنسبة إليه؛ أي أن الوعي يبحث عن وساطة بينه وبين معرفته لنفسه، وهذا ما ينعته هيجل بمفهوم التوسط (La médiation) .
وباعتبار الموجودات الطبيعية مجردة من الوعي، فهي موضوعات لإشباع حاجات الوعي الطبيعية، لذلك فهي تغرقه في الحياة العضوية وتجعله لا يتجاوز درجة الإحساس المباشر بالذات، ولهذا أيضا فهي لا تصلح كوساطة تمكن الوعي من تحقيق معرفة كاملة بنفسه.
    إن الوعي الآخر (الغير) هو الوحيد القادر على القيام بدور التوسط بين الأنا ومعرفته بذاته؛ ذلك أن الأنا يسعى إلى الاعتراف به من طرف الآخر. غير أن هذا الاعتراف يتم من خلال عملية الصراع التي تقوم بين الأنا والغير، والتي تنتهي بإخضاع أحد الوعيين للآخر وإجباره على الاعتراف له بوجوده. وبذلك تنشأ العلاقة الإنسانية الأولى، علاقة السيد بالعبد.
وهكذا فليس للأنا وجودا حقيقيا إلا من خلال علاقته بالأنا الآخر (الغير) وليس قبلها. فوجود الغير شرط ضروري لوجود الأنا؛ مادام أن كلا من السيد والعبد يتوقف وجود أحدهما على وجود الآخر.
    إن العزلة الوجودية أفضت بديكارت إلى إقصاء وجود الغير كذات ؛ في حين الصراع القائم بين الذوات هو دليل على وجود الغير . أي أن الوعي بالذات يقتضي الوعي بوجود الغير.

   3-   موقف هايدغر: الوجود مع الآخرين تذويب لوجود الأنا المفرد
    يحلل هايدغر معنى الوجود مع الآخرين، فيخلص إلى أن الذات تفقد تميزها وهويتها كاختلاف عندما تدخل في حياة مشتركة مع الغير. هكذا يتميز الوجود مع الغير بخاصية التباعد الذي قد يعني غياب تفاهم وتعاطف بين الأنا والغير. فالأنا في علاقته مع الغير يوجد تحت قبضته وسيطرته، بحيث يقوم هذا الأخير بإفراغ الأنا من إمكانياته ومميزاته الفردية ويجعله تابعا له. إن الغير يمارس على "الموجود هنا" هيمنة خفية، خصوصا وأن مفهوم الغير غير محدد بدقة بحيث أن الذات هي الأخرى جزء منه، وبانتمائها له تزيد من هيمنته وسلطته عليها. ويتجلى هذا الانتماء في وجود روابط عرفية وقانونية مشتركة بين الأنا والغير، وهي التي يستثمرها هذا الأخير من أجل بسط هيمنته على الذات وإحكام قبضته عليها. ويؤكد هايدغر على خاصية التشابه أو اللاتمييز التي توجد بين الأنا والغير، بحيث تذوب الذات في الغير وتفقد تميزها وتفردها الخاص. هكذا يعمل الآخرون على خلق ذوات متشابهة، ويساهمون في اختفاء هوية الفرد وذوبانه في حياة الجماعة. يتساءل هايدغر: كيف يمكن أن يتساكن coexiste نمطان متعارضان من الوجود: الوجود هنا والوجود مع الغير؟ ويجيب بأن التباعد خاصية مميزة للوجود- مع- الغير أي لوجودنا المشترك مع الآخرين، رغم التقارب المكاني ظاهريا، فالموجود- هنا (الوجود الإنساني كوجود زمني واع) وجود فردي خاص، لا أكون أنا هو أنا مطابقا لذاتي إلا عندما أؤكد فرديتي أو أكون في عزلتي.                      
    فالموجود-هنا لا يكون مطابقا لذاته، و الغير ليس أحدا متعينا، ليس هو عمرو أو زيد ، ذاك أو هذا، إنه الآخرون أو كما يقول الفرنسيون on، إنني لست جزءا من هؤلاء الآخرين، بمعنى أنني في مواجهتهم وتحت ضغط قوتهم العددية ولكني أيضا ومن خلال دخولي في علاقات معهم و تواجدي بينهم أصبح جزءا من الآخرين فأساهم في زيادة قوتهم العددية. ونستنتج أن التهديد الذي يتحدث عنه هايدغر يتمثل في الطابع اللاشخصي للغير. 

     4-   موقف سارتر: وجود الغير كأنا منفصل عن أناي ضروري للوعي بالذات.
    يستبعد جون بول سارتر الأطروحة الديكارتية التي تعتبر أن الكوجيطو يسمح بإدراك الذات و الوعي بها في استقلال تام عن الغير، وأن وجود الغير غير ضروري و احتمالي. ويعتبر أن وعي الذات يتضمن انكشافا للغير، وأن الغير هو الوسيط الضروري بيني وبين ذاتي. فهل يمكن الوعي بحقيقة وجود الذات في استقلال عن وجود الغير؟ وهل وجود الغير هو ضروري للوعي بوجود الذات أم أنه احتمالي؟.
    قدم جون بول سارتر مثال الخجل لتأكيد أطروحته التي مفادها أنني أتأكد من ما أنا عليه من خلال حكم الآخرين. وأنني أجهل ذاتي في غياب حكم الآخرين. فحين أكون مستغرقا في فعلي، فأنا لا أعي فعلي، بسبب غياب حكم قيمة، (لا أحكم عليه و لا أدينه) بل أحياه فقط،  فهذا السلوك هو محايد. فالوعي بالنسبة لسارتر ليس معطي أصلي وأولي في الذات ، بل هو بداية الوعي بالعالم. إن نظرة الآخر تجعلني أعي ما تحمله حركتي من سوقية فأشعر بالخجل وأعترف بصحة حكمه لأنني أشعر بالخجل.  فظهور الأخر هو الذي سيؤدي إلى إحداث هذا الانقلاب في الوعي بوجود الذات، و يعني أن انكشاف حقيقة الذات تتم في حضور الغير .
    إن تجربة اللقاء بالغير تقوم في عالم من الصراع: ذلك أنني أصدر حكما على نفسي كما أصدره على موضوع ما.لأنني أظهر أمام الغير كموضوع. ويمكنني أن أحس بالضيق والغضب إزاء الصورة التي كشفني بها الغير أمام ذاتي. بل أنا بدوري نظرتي تحول الغير إلى موضوع مثلما تحولني نظرته إلى موضوع. فنظرة بعضنا البعض تهدد حريتنا. فأن أكون تحت نظرة الأغيار جحيم لا يمكن تحمله. و هو ما يفسر قولة سارتر " الجحيم هم الآخرون" في مسرحية (Huis-clos )، فهذه النظرة التي تحولني إلى موضوع  لا يمكن تحملها. فأنا أتوجس من حكم الغير لأنه يحولني إلى موضوع ، كما أنني أحوله أنا بدوري إلى موضوع، فنحن إذن نتوجس من بعضنا،  حين يدرك أبطال المسرحية أن  أقسى العقوبات هي تلك النظرة الدائمة الحضور للأغيار، والتي لا يمكن أن نتحرر منها.    
    إن اكتشاف حقيقة ذاتي مرتبط بحضور الغير فالمعنى الحقيقي لأفعالي يرتبط بحكم الغير.إن حقيقة الخجل هو الخجل من ذاتي أمام الغير، فأنا في حاجة إلى الغير لاكتشاف حقيقة ذاتي. إن الغير بالنسبة لسارتر ليس سوى موضوعا لاهتماماتي والعكس صحيح، إنه هو الآخر ذلك الأنا الذي ليس أنا أي مجرد نظام مترابط من التجارب المستقلة عني، لكن وجود الغير ضرورة لأنه وبواسطته أدرك ذاتي، فهو يوجد كموضوع لإدراكي، وخلاصة القول: إن التجربة الوجودية التي يعيشها الأنا والغير تجعل منهم موضوعا لبعضهم البعض. يعتبر سارتر الوجود الإنساني سابق على الماهية وأن الحرية شرط هذا الوجود، فالأنا في التصور الوجودي هو أنا في مواجهة نظرة الغير كوجود لا  تحكمها علاقة نفي كما هو الشأن مع ديكارت ولا علاقة عبودية كما تصور ذلك هيغل، بل تتميز بالاعتراف المتبادل يغيب فيها عنصر الإلغاء لأن شرط وجود الأنا والغير الحرية، ولهذا اعتبر سارتر الوجود الإنساني مشروع .

مفهــوم الغيــــر - العلاقة مع الغير

  مفهــوم الغيــــر       III- العلاقة مع الغير :     تتعدد أوجه العلاقة بالغير وتتخذ أبعادا مختلفة بين الابن وال...